باب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم15
سنن الترمذى
حدثنا أحمد بن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك بن أنس، عن أبي النضر، عن عبيد بن حنين، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال: «إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده»، فقال أبو بكر: فديناك يا رسول الله بآبائنا وأمهاتنا. قال: فعجبنا، فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عند الله وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا قال: فكان رسول الله هو المخير، وكان أبو بكر هو أعلمنا به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام، لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر»: «هذا حديث حسن صحيح»
كان أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه أقرَبَ النَّاسِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فهو رَفيقُه في هِجرَتِه، وهو أعظَمُ هذه الأُمَّةِ إيمانًا وتَصْديقًا، بحيث لو وُزِنَ إيمانُه بإيمانِ النَّاسِ كلِّهم، لرجَحَ إيمانُه بإيمانِهم.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ أبو سَعيدٍ الخُدْريُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جلَسَ على المِنبَرِ في مرَضِه الأخيرِ الَّذي مات فيه، وذلك في العامِ الحادي عشر مِن الهِجْرةِ بالمَدينةِ المُنوَّرةِ، فقال: «إنَّ عَبدًا خَيَّره اللهُ بيْن أنْ يُؤْتيَه مِن زَهرةِ الدُّنْيا ما شاء»، والمَعنى: يُعْطيه مِقْدارَ ما أرادَ مِن طُولِ العُمرِ والبَقاءِ في الدُّنْيا، والتَّمتُّعِ بها، وزَهرةُ الدُّنيا: نَعِيمُها وزِينَتُها، «وبيْن ما عِندَه، فاخْتارَ ما عندَه»، أي: اختارَ وفضَّلَ ما عندَ اللهِ سُبحانَه، ممَّا أعدَّ له مِن أنْواعِ النَّعيمِ المُقيمِ، ولذَّةِ اللِّقاءِ، والنَّظَرِ إلى وَجْهِه الكَريمِ، فلمَّا سَمِع أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه ذلك القَولَ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَكى، وقال: فدَيْناكَ بآبائِنا وأُمَّهاتِنا! فتَعجَّبَ الحاضِرونَ مِن قَولِ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه وبُكائِه؛ إذ لم يَفْهَموا مِن كَلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما يَستَدْعي ذلك البُكاءَ والقَولَ مِن أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، ولكنَّ الصِّدِّيقَ رَضيَ اللهُ عنه قدْ فهِمَ مِن هذا الكَلامِ مُفارَقَتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الدُّنْيا، وأنَّ العَبدَ المُخيَّرَ هو رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فبَكى لذلك، وقال ما قال.
فلمَّا مات النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فهِمَ النَّاسُ مَقصِدَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن كَلامِه؛ ولذلك قال أبو سَعيدٍ الخُدْريُّ رَضيَ اللهُ عنه: «فكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو المُخيَّرَ»، أي: هو الَّذي خَيَّره اللهُ بيْن نَعيمِ الدُّنْيا وبيْن لِقائِه، وكان أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه أعلَمَ النَّاسِ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حقِّ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه: «إنَّ مِن أمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ في صُحبَتِه ومالِه أبا بَكْرٍ»، ومَعْناه: أنَّه أكثَرُهم جُودًا وسَماحةً لنا بنفْسِه ومالِه، وليس هو مِن المَنِّ الَّذي هو الاعْتِدادُ بالصَّنيعةِ؛ لأنَّه أذًى مُبطِلٌ للثَّوابِ، ولأنَّ المِنَّةَ للهِ ولرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في قَبولِ ذلك، وفي غيرِه. وقال: «ولو كُنتُ مُتَّخِذًا خَليلًا مِن أُمَّتي لَاتَّخَذْتُ أبا بَكرٍ، إلَّا خُلَّةَ الإسْلامِ»، والمَعنى: لو كُنتُ مُتَّخِذًا صَديقًا أنقَطِعُ إليه، وأُفرِّغُ قَلْبي لمَودَّتِه، لاتَّخَذْتُ أبا بَكرٍ. وقيلَ: أصْلُ الخُلَّةِ: الافْتِقارُ والانْقِطاعُ، فخَليلُ اللهِ: المُنقَطِعُ إليه، وقيلَ: لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَصَرَ حاجَتَه على اللهِ تعالَى، وقيلَ: الخُلَّةُ: الاخْتِصاصُ، وقيلَ: الاصْطِفاءُ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليس له خَليلٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالَى قدِ اتَّخَذَه خَليلًا، وهذا لا يُنافي ما ذكَرَه الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم مِن اتِّخاذِهم إيَّاه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَليلًا؛ إذ لا يُشترَطُ في الخُلَّةِ أنْ تكونَ مِن الطَّرَفَينِ، ولوِ اتَّخَذَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أحَدًا خَليلًا لَاتَّخَذَ أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه؛ لأنَّه أهلٌ لذلك لولا المانِعُ؛ فإنَّ خُلَّةَ الرَّحمَنِ تعالَى لا تسَعُ مُخالَّةَ شَيءٍ غَيرِه أصْلًا، ولم يكُنْ بيْن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبيْنه رَضيَ اللهُ عنه إلَّا أُخوَّةُ الإسْلامِ.
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لا يَبقَيَنَّ في المَسجِدِ خَوْخةٌ إلَّا خَوْخةُ أبي بَكرٍ»، والخَوْخةُ: البابُ الصَّغيرُ، وكان بعضُ الصَّحابةِ فَتَحوا أبْوابًا في دِيارِهم إلى المَسجِدِ، فأمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بسَدِّها كلِّها إلَّا بابَ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه؛ ليَتميَّزَ بذلك فَضلُه.
وفي الحَديثِ: مَنقَبةٌ عَظيمةٌ لأبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه.
وفيه: تَعْريضٌ بالخِلافةِ لأبي بَكرٍ بعْدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: أنَّ المَساجِدَ تُصانُ عن تَطرُّقِ النَّاسِ إليها، إلَّا لحاجةٍ مُهِمَّةٍ.
وفيه: التَّرغيبُ في اختيارِ ما في الآخِرةِ على ما في الدُّنيا.
وفيه: شُكرُ المحسِنِ، والتَّنويهُ بفضْلِه، والثَّناءُ عليه.