باب النهي أن يخرج في الصدقة شر ماله 2
سنن ابن ماجه
حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا عمرو ابن محمد العنقزي، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي، عن عدي بن ثابت
عن البراء بن عازب، في قوله سبحانه: {ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} [البقرة: 267]، قال: نزلت في الأنصار، كانت الأنصار تخرج، إذا كان جداد النخل من حيطانها أقناء البسر، فيعلقونه على حبل بين أسطوانتين في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيأكل منه فقراء المهاجرين، فيعمد أحدهم فيدخل قنو الحشف، يظن أنه جائز في كثرة ما يوضع من الأقناء، فنزل فيمن فعل ذلك: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون}، يقول: لا تعمدوا للحشف منه تنفقون، {ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه}، يقول: لو أهدي لكم ما قبلتموه إلا على استحياء من صاحبه، غيظا أنه بعث إليكم ما لم يكن لكم فيه حاجة، واعلموا أن الله غني عن صدقاتكم (2).
الصَّدقةُ تقَعُ في يدِ اللهِ عزَّ وجلَّ قبلَ أن تقَعَ في يدِ العبدِ؛ ولذلك على المسلِمِ أنْ يَحرِصَ أن تكونَ صدَقتُه في أصلَحِ وأجمَلِ ما تكونُ، طالِبًا بذلك الأجرَ والثَّوابَ مِن اللهِ تعالى.
وفي هذا الحديثِ يقولُ البَراءُ بنُ عازِبٍ رَضِي اللهُ عَنه في سبَبِ نُزولِ قولِه تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]، قال: "نزلَت فينا- معشرَ الأنصارِ- كنَّا أصحابَ نخلٍ"، أي: يَكثُرُ فيهم زِراعةُ النَّخلِ ويتَميَّزون به، "فكان الرَّجلُ"، أي: مِن الأنصارِ، "يأتي مِن نَخلِه"، أي: بالتَّمْرِ والثَّمَرِ، "على قَدْرِ كَثرتِه وقِلَّتِه"، أي: بِقَدرِ ما يَخرُجُ له مِن ثمارِ التَّمرِ، فكان العطاءُ يتَفاوَتُ بينَ بعضِهم البعضِ، "وكان الرَّجلُ يأتي بالقِنْوِ والقِنْوَين"، أي: فكان مِنهم مَن يأتي بقِنْوٍ واحدٍ، ومنهم مَن يأتي بالقِنْوَين، والقِنْوُ: غُصنُ النَّخيلِ بما يَحمِلُه مِن تَمرٍ، "فيُعلِّقُه في المسجِدِ"، أي: في مَسجدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، وَقفًا أو صَدقةً للفُقراءِ والمُحتاجين، "وكان أهلُ الصُّفَّةِ ليس لهم طَعامٌ"؛ أهلُ الصُّفَّةِ: جماعةٌ مِن فُقراءِ المسلمين، وكانوا لا طَعامَ لهم ولا مَأْوى؛ فكانوا يُقيمون في المسجِدِ ويتَعلَّمون العِلمَ ويُجاهِدون، "فكان أحَدُهم"، أي: مِن أهلِ الصُّفَّةِ، "إذا جاع أتى القِنْوَ فضَربَه بعَصاه، فيَسقُطُ البُسْرُ والتَّمرُ فيَأكُلُ"، أي: كانوا يَطْعَمون مِن هذا التَّمرِ المعلَّقِ، والبُسرُ: البلَحُ قبل أن يتَحوَّلَ رُطَبًا، "وكان ناسٌ مِمَّن لا يَرغَبُ في الخيرِ"، أي: لا يَحرِصُ أن يَحصُلَ بعمَلِه على الأجرِ والثَّوابِ مِن اللهِ في ذلك، "يَأتي الرَّجُلُ بالقِنْوِ فيه الشِّيصُ والحَشَفُ، وبالقِنْوِ قد انكَسَر، فيُعلِّقُه"، أي: يأتي بأردَأِ الثَّمرِ ويَجعَلُه في المسجدِ للفُقراءِ، والشِّيصُ: التَّمرُ الَّذي لا يَشتَدُّ نَواه، والحشَفُ: أردَأُ أنواعِ التَّمرِ وهو الَّذي يَبِس على النَّخلِ قبل أن يَتِمَّ نُضجُه.
قال البراءُ: فأنزل اللهُ تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267]، أي: ولا تَقصِدوا في نفَقاتِكم مِن أموالِكم السَّيِّئَ والرَّديءَ مِنها، ولَسْتُم بآخِذي هذا الرَّديءِ الخبيثِ لو أُهدِيَ لكم، إلَّا أن تُغمِضوا فيه، فتَأخُذوه وأنتم له كارِهون، على استحياءٍ مِنكُم ممَّن أهداه لكم، والإغماضُ: المسامَحةُ والمساهَلةُ، "قالوا"، أي: في معناها: "لو أنَّ أحَدَكم أُهدِيَ إليه مِثلُ ما أعطى"، أي: مِثلُ الَّذي أنفقه، "لم يَأخُذْه إلَّا على إغماضٍ أو حياءٍ"، قال البراءُ: "فكُنَّا بعدَ ذلك يَأْتي أحَدُنا بصالِحِ ما عِندَه"، أي: كانوا يَجتَهِدون في إخراجِ أجوَدِ أنواعِ تُمورِهم للفُقراءِ والمُحتاجين، وهذا الأمرُ مِن التَّربيةِ الرَّبَّانيَّةِ للمُسلِمين وتنبيهٌ لهم أنَّ اللهَ طيِّبٌ لا يَقبَلُ إلَّا طيِّبًا مِن جميعِ الوجوهِ، وحتَّى يُنفِقَ المنفِقون مِن أحسَنِ ما عِندَهم، وأنْ يكونَ للفقيرِ نصيبٌ مِن المالِ الجيِّدِ.