باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها
بطاقات دعوية
حديث أبي موسى ومعاذ بن جبل قال أبو موسى: أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومعي رجلان من الأشعريين، أحدهما عن يميني والآخر عن يساري، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك فكلاهما سأل، فقال: يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس قال، قلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل فكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته قلصت فقال: لن أو لا نستعمل على عملنا من أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس إلى اليمن ثم اتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه ألقى له وسادة، قال: انزل وإذا رجل عنده موثق قال: ما هذا قال: كان يهوديا فأسلم ثم تهود قال: اجلس قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، ثلاث مرات فأمر به فقتل ثم تذاكرا قيام الليل فقال أحدهما: أما أنا فأقوم وأنام، وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي
الوظيفة والولاية على المسلمين أمانة، والمقصود منها تحقيق مصالح المسلمين ومنافعهم؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يولي أحدا طلب العمل؛ لأن طلبه العمل يدل على إرادته تحقيق مصلحة خاصة
وفي هذا الحديث يخبر أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أنه جاء مع اثنين من قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو موسى رضي الله عنه في الوسط بينهما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ يستعمل السواك وينظف به أسنانه، فلما وقفا عند النبي صلى الله عليه وسلم طلب الرجلان من النبي صلى الله عليه وسلم: سألا، وفي رواية أخرى في الصحيحين: «أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل»، أي: أنهما سألا النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة على إحدى البلدان والمناطق التي فتحها الله عليه، فتوجه النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء والكلام إلى أبي موسى كأنه يستفهم منه عن أمرهما وطلبهما، فأقسم أبو موسى رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يعلم أنهما ينويان طلب أن يكونا من عماله، ولا هم أخبروه بذلك، يقول أبو موسى رضي الله عنه: «فكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته قلصت» يعني: ارتفعت شفته صلى الله عليه وسلم عن السواك؛ لأنه كان ينوي الكلام، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «لا نستعمل على عملنا من أراده»، يعني: لا نولي أحدا أراد الولاية والوظيفة؛ لما فيه من التهمة بسبب حرصه، ولأن من سأل الولاية وكل إليها ولا يعان عليها، كما أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه في الصحيحين
ثم ولى النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري رضي الله عنه اليمن، وجعله أميرا على جزء منها؛ ليعلم الناس أمور دينهم، ويكون قاضيا بينهم وجامعا للزكاة، وأرسل بعده معاذ بن جبل رضي الله عنه، وكانت جهة معاذ رضي الله عنه العليا إلى صوب عدن، وجهة أبي موسى رضي الله عنه السفلى، فلما وصل معاذ رضي الله عنه إلى أبي موسى رضي الله عنه ألقى إليه وسادة؛ ليجلس عليها، كما هي عادتهم أنهم إذا أرادوا إكرام رجل وضعوا الوسادة تحته؛ مبالغة في الإكرام، فوجد معاذ رضي الله عنه رجلا عند أبي موسى رضي الله عنه موثقا ومقيدا، فسأل معاذ رضي الله عنه عن أمره، فقيل له: إنه كان يهوديا فأسلم ثم ارتد مرة أخرى إلى اليهودية، فقال معاذ رضي الله عنه: لا أجلس حتى يقتل، وهذا حكم الله ورسوله في قتل المرتد، وكرر ذلك ثلاث مرات، تأكيدا وإصرارا على تنفيذ ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم المرتد، فأمر به أبو موسى رضي الله عنه، فقتل
ثم تذاكر أبو موسى ومعاذ رضي الله عنهما صلاة قيام الليل، فقال معاذ رضي الله عنه -أو أبو موسى رضي الله عنه-: أما أنا فأقوم من الليل بعضه وأنام بعضه، وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي، والمعنى: أني أنام بنية القوة وإجماع النفس للعبادة وتنشيطها للطاعة، فأرجو في ذلك الأجر كما أرجو في قومتي، أي: صلواتي، وفي رواية في البخاري تحديد القائل، وفيه أن معاذا سأل أبا موسى الأشعري: «كيف تقرأ القرآن؟ قال: أتفوقه تفوقا» أي: ألازم قراءته ليلا ونهارا شيئا بعد شيء، ولا أقرأ وردي دفعة واحدة، قال أبو موسى: «فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل، فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي»
وفي الحديث: فضيلة السواك في جميع الأوقات، وشدة الاهتمام به، وتكراره
وفيه: مشروعية الاستياك بحضرة الناس
وفيه: كراهة سؤال الإمارة والحرص عليها، ومنع الحريص منها
وفيه: تزاور الإخوان والأمراء والعلماء، وإكرام الضيف، والمبادرة إلى إنكار المنكر
وفيه: أن القتل هو حد المرتد
وفيه: إقامة الحد على من وجب عليه، وعدم التساهل والتأخير فيه
وفيه: أن النية الصالحة تجعل أمر المسلم كله خيرا، فتجعل وقت النوم مثل وقت العبادة