باب بعث العيون
حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا سليمان - يعنى ابن المغيرة - عن ثابت عن أنس قال بعث - يعنى النبى -صلى الله عليه وسلم- - بسبسة عينا ينظر ما صنعت عير أبى سفيان
هاجَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأصحابِه مِن مكَّةَ إلى المدينةِ وقدْ حالَتْ قُرَيشٌ بيْنهم وبيْنَ أموالِهِم وبُيوتِهم، وقدْ حازَها صَناديدُ قُريشٍ وزُعماؤها، فلمَّا أنْ تمَّتِ الهجرةُ أرادَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَسترجِعَ أموالَ المسْلِمين الَّتي بمكَّةَ، فجَعَل يَتتبَّعُ قَوافلَ قُريشٍ، ومنها قافلةُ أبي سُفيانَ بنِ حَربٍ -وكان ذلكَ قبْلَ إسلامِه- والَّتي على أثَرِها قامتْ غَزوةُ بَدرٍ الكُبرى، والَّتي وَقَعت في السَّنةِ الثَّانيةِ مِن الهجرةِ
وفي هذا الحديثِ يَرْوي أنسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعَثَ رجُلًا اسمُه بُسَيْسَةُ، وقيل: بَسْبَسٌ، وهو ابنُ عمرٍو، ويُقال: ابنُ بِشرٍ، مِن الأنصارِ، ليَكونَ عَينًا، أي: جاسوسًا، لِيَنظُرَ ما صَنعَتْ «عِيرُ أبي سفيانَ»، يُريدُ: قافلتَه القادمةَ مِن الشَّامِ إلى مكَّةَ، وكان فيها أموالٌ لقُريشٍ، والعِيرُ: هي الدَّوابُّ الَّتي تَحمِلُ الطَّعامَ وغيرَه، فلمَّا اسْتطلَعَ بُسَيسةُ الأخبارَ، رجَعَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليُخبِرَه بما عِنده، يقولُ أنسٌ رَضيَ اللهُ عنه: «فَجاءَ ومَا في البيتِ أحدٌ غيرِي، وَغَيْرُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ» يَقصِدُ به بيتَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهي إحْدى حُجراتِ نِسائهِ، وشَكَّ الرَّاوي -والظَّاهرُ أنَّه ثابتٌ البُنانيُّ الرَّاوي عن أنسٍ- هلْ كان بعضُ أزواجِ ونِساءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في البيتِ أمْ لا؟ «فحدَّثَه الحديثَ» أي: جَعَل بُسَيْسةُ يَذكُرُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما عِنده مِن أخبارٍ عن قافلةِ المشْرِكين، فَخرجَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَتكلَّمَ مع أصحابِه رَضيَ اللهُ عنهم، وبيَّنَ لهم سَببَ خُروجِه للغارةِ على القافلةِ، فقالَ: «إنَّ لنا طِلْبَةً» يريدُ أنَّنا خارِجونَ لِطلبِ القَافلةِ، فَمَن كان «ظهْرُه حاضرًا»، والمرادُ بالظَّهرِ: الدَّابَّةُ مِن الإبِلِ والخيلِ وغيرِهما، «فَلْيركَبْ» أي: فلْيَخرُجْ معنا، فَجعلَ رِجالٌ يَستأذِنُونَه في ظَهرانِهم، أي: في إحضارِ دَوابِّهم مِن عَوالي المدينةِ، وهي قُرًى بقُرْبِ مَدينةِ رسولِ اللهِ عليه الصَّلاةُ والسلَّامُ جِهةَ قُباءٍ، مِن فَوقِها مِن جِهةِ الشَّرقِ، وأقرَبُ العَوالي إلى المَدينةِ على بُعدِ مِيلينِ أو ثَلاثةِ أميالٍ، وأبعَدُها ثَمانيةٌ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لا، إلَّا مَن كان ظَهرُه حاضرًا» الآنَ، فلْيَخرُجْ معنا، فَانطلقَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابُه خُروجًا مِنَ المدينةِ قاصِدِين قافلةَ أبي سُفيانَ، حتَّى سبَقُوا المشركينَ إلى بِئرِ بدْرٍ بيْنَ مكَّةَ والمدينةِ، وهو إلى المدينةِ أقرَبُ، ونَزلُوا عِنده قَبْلَ الكفَّارِ وجاءَ المشركونَ، بعْدَ المسلمينَ وتَصافُّوا، فأمَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصحابَه ألَّا يَتقدَّمَ أحدٌ منهم إلى شَيءٍ حتَّى يكونَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو الَّذي يَأذَنُ به، فاقتَرَب المشركونَ مِن صُفوفِ المسلمينَ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأصحابِه تَشجيعًا لهم، وحثًّا على الجهادِ: «قُومُوا إلى جَنَّةٍ»، أي: عمَلٍ هو سَببُ دُخولِها، وهو مُجاهَدةُ ومُقاتَلةُ المشْركين، وهذه الجنَّةُ عرْضُها كَعرضِ السَّماءِ والأرضِ، وهذا للمُبالَغةِ وإنْ كانت الجنَّةُ أوسَعَ منهما بكَثيرٍ، فقال عُمَيْرُ بْنُ الحُمَامِ الأنصاريُّ رَضيَ اللهُ عنه: يا رسولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرضُها السَّمواتُ والأرضُ؟ هذا السُّؤالُ مِن عُمَيرٍ سُؤالَ استعظامٍ، وتَعجُّبٍ مِن سَعةِ جَنَّةِ اللهِ تَعالَى وعَظيمِ ثَوابِه للمجاهدِ، فَأجابَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: نَعم، فقال عُمَيرٌ: بَخٍ بَخٍ! وهي كلمةٌ تُقالُ عند المدْحِ وَالرِّضَا بِالشَّيءِ وتُكرَّرُ لِلمبالغةِ، فسَأله النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن سَببِ قولِه: بَخٍ بَخٍ؟ قال: «لا واللهِ يا رسولَ اللهِ» لم يَحمِلْني على ذلك شَيءٌ، إلَّا رجاءَ أنْ أكونَ مِن أهلِ الجنَّةِ، فقالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فإنَّك مِن أهلِها، وهذه بُشرى مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لعُمَيرٍ رَضيَ اللهُ عنه بأنَّه مِن أهلِ الجنَّةِ، فَأخرَجَ عُمَيرٌ رَضيَ اللهُ عنه تَمراتٍ مِن «قَرنِه»، وهي كِنانتِه الَّتي يَضَعُ فيها السِّهامَ، فَشرَعَ يأكلُ منهنَّ؛ تقويةً لِلبَدَنِ على الجِهادِ، ثُمَّ قال عُمَيرٌ رَضيَ اللهُ عنه لِنفْسهِ في أَثناءِ أَكْلِها: «لَئِنْ أنا حَيِيتُ»، أي: عِشتُ حتَّى آكُلَ تَمراتي هذه، جميعَها، «إنَّها لحياةٌ طويلةٌ!» فكأنَّه وَجَد نفْسَه مُختارةً للحياةِ على الشَّهادةِ، فأنْكَرَ عليها ذلكَ، شوقًا إلى الشَّهادةِ، فَرمَى بما كان معه مِنَ التَّمرِ، ثُمَّ قاتَلَ المشْرِكين حتَّى قُتِلَ في سبيلِ اللهِ
وفي الحديثِ: المسارعةُ إلى الشَّهادةِ
وفيه: أنَّ مِن هدْيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إرسالَ العيونِ والطَّلائعِ
وفيه: كتمانُ الأحوالِ وترْكُ الإشاعةِ لِلأمورِ
وفيه: التَّوريةُ في الحربِ، وألَّا يُبيِّنَ الإمامُ جِهةَ إغارتِه وإغارةِ سَراياهُ؛ لئلَّا يَشيعَ ذلك، فيَأخُذَ العدوُّ بالحذَرِ والتَّأهُّبِ
وفيه: فضْلُ عُمَيْرِ بنِ الحُمَامِ رَضيَ اللهُ عنه