باب تحفة أهل الجنة
بطاقات دعوية
عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كنت قائما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء حبر من أحبار اليهود فقال السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال لم تدفعني فقلت ألا تقول يا رسول الله فقال اليهودي إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي فقال اليهودي جئت أسألك فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أينفعك شيء إن حدثتك قال أسمع بأذني فنكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعود معه فقال سل فقال اليهودي أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم في الظلمة دون الجسر قال فمن أول الناس إجازة قال فقراء المهاجرين قال اليهودي فما تحفتهم حين يدخلون الجنة قال زيادة كبد النون قال فما غذاؤهم على أثرها قال ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها قال فما شرابهم عليه قال من عين فيها تسمى سلسبيلا قال صدقت قال وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان قال ينفعك إن حدثتك قال أسمع بأذني قال جئت أسألك عن الولد قال ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله وإذا علا مني المرأة مني الرجل
آنثا بإذن الله قال اليهودي لقد صدقت وإنك لنبي ثم انصرف فذهب فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقد سألني هذا عن الذي سألني وما لي علم بشيء منه حتى أتاني الله به. (م 1/ 173 - 174)
كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رحمةً للعالَمينَ، ومُعلِّمًا ومُربّيًا، وداعيًا إلى اللهِ بالحكمةِ والموعظةِ الحَسنةِ
وفي هذا الحديثِ يَروي ثَوبانُ مَولى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه كانَ واقفًا عندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فجاءَ عالِمٌ من عُلماءِ اليَهودِ، فسَلَّمَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قائلًا: «السَّلامُ عليك يا محمَّدُ» مُخاطِبًا له باسمِه مُجرَّدًا من وَصفِ النُّبوَّةِ أوِ الرِّسالةِ، فلمَّا سَمِعَه ثوبانُ رَضيَ اللهُ عنه، أبعَدَه بيَدِه، ودفَعَه دَفعةً قويَّةً كادَت تُوقِعُه على الأرضِ، ولمَّا سألَه اليَهوديُّ عن سببِ دفعِه له، فقالَ له: «ألَا تَقُولُ يا رَسولَ اللهِ»، فأجابَه اليهوديُّ أنَّهم يَدعون النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ باسمِه الَّذي سمَّاه به أهلُه، فوافَقَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّ اسمَه الذي سمَّاه به أهلُه مُحمَّدٌ، وهو اسمُ مفعولٍ من حُمِّدَ مُضعَّفًا، وهو بمَعنى مَحمودٍ، وفيه مَعنى المُبالَغةِ، أيِ: الذي حُمِدَ مَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ، أوِ الذي تَكامَلت فيه الخِصالُ المحمودةُ
وأخبَرَ اليهوديُّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه أتى ليَسألَه، فَقالَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عليه وسلَّمَ: «أيَنْفَعُكَ شَيءٌ إنْ حَدَّثْتُكَ؟» والمَعنى: هل أنتَ قاصِدٌ بسؤالِكَ الانتفاعَ بما أُحدِّثُك به، وليسَ قَصدُك التَّحدِّيَ والمُعاكَسةَ؟ فقالَ اليهوديُّ: «أسْمَعُ بأُذُنَيَّ»، كأنَّه يُريدُ أن يَسمَعَ أولًا، ثُمَّ يَحكُمَ على كلامِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ ضَرَبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو يُحدِّثُ اليهوديَّ بعُودٍ من خشبٍ كانَ معه، وجَعَلَ يَضرِبُ بهذا العُودِ في الأرضِ ويؤثِّر فيها، وهذا يَفعَلُه مَن يُفكِّرُ في أمرٍ ما، ثُمَّ أمَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يَسألَ، فسَألَه اليهوديُّ: «أيْن يَكونُ النَّاسُ يومَ تُبدَّلُ الأرضُ غيرَ الأرضِ والسَّمواتُ؟» وذلك يومَ القيامةِ، فأخبَرَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّهم يَكونُونَ في الظُّلمةِ على الجِسرِ، والمُرادُ بالجسرِ: الصِّراطُ، وأخرَجَ الشَّيخانِ من حديثِ سهلِ بنِ سعدٍ السَّاعديِّ رَضيَ اللهُ عنهما، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
«يُحشَرُ النَّاسُ يومَ القيامةِ على أرضٍ بيضاءَ، عَفْراءَ، كقُرصةِ النَّقيِّ، ليسَ فيها عَلَمٌ لأحدٍ»
ثُمَّ سألَه اليهوديُّ: مَن أوَّلُ النَّاسِ عُبورًا للصِّراطِ الذي يُنصَبُ على ظَهرِ جَهنَّمَ؟ قالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «فُقراءُ المُهاجِرينَ»، وهمُ الصَّحابةُ الذين هاجَروا من مكَّةَ إلى المدينةِ فِرارًا بدينِهم، ونُصرةً لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وترَكوا أهلَهم وأموالَهم؛ طلبًا لرِضا اللهِ تَعالَى، قالَ اليَهوديُّ: «فما تُحْفَتُهم حِينَ يَدخُلون الجَنَّةَ؟» والتُّحفةُ: هي ما يُهدَى إلى الرَّجلِ ويُخَصُّ به ويُلاطَفُ، قالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «زيادةُ كبِدِ النُّونِ»، وهو الحُوتُ، والمقصودُ به طرَفُ الكبِدِ، وهو أطيَبُها، قالَ: «فما غِذاؤُهم على إثرِها» بعدَ أن يَأكُلُوا من زيادةِ كبدِ الحُوتِ؟ وقولُه: «غِذاؤُهم» رُوي بالوَجهَينِ: «غِذَاؤهم» وهو من الغِذَاءِ، وهو الطَّعامُ الذي يُغذَّى به الجسمُ في أيِّ وقتٍ منَ الأوقاتِ، والثَّاني: «غَدَاؤُهم» منَ الغَدَاءِ، وهو الأكلُ أوَّلَ النَّهارِ
فقالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «يُنحَرُ لهُم ثَوْرُ الجَنَّةِ» -وهو الذَّكَرُ منَ البَقرِ- الَّذي كان يَأكُلُ من أطرافِ الجَنَّةِ، وهذا يُشعِرُ بأنَّه ثورٌ معهودٌ مُتفرِّدٌ بصفاتٍ لا يُماثِلُه فيها غيرُه من ثيرانِ الجَنَّةِ، أو ليسَ في الجَنَّةِ غيرُه، وفي روايةٍ في الصَّحيحَينِ من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّ اليهوديَّ قالَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ألَا أُخبِرُك بإدامِهم؟ قالَ: بَلى، قال: إدامُهم بالامٌ ونونٌ، قالوا: وما هذا؟ قالَ: ثَورٌ ونونٌ، يأكلُ من زائدةِ كبدِهما سبعونَ ألفًا»، ولعلَّهمُ الذين يَدخُلونَ الجَنَّةَ بغيرِ حسابٍ، فُضِّلوا بأطيَبِ الطَّعامِ، ويَحتمِلُ أن يَكُونَ عبَّرَ بالسَّبعينَ عنِ العددِ الكثيرِ، ولم يُرِدِ الحَصرَ فيها
قالَ اليهوديُّ: «فما شَرابُهم عليه؟» أي: على ما أكَلوه منَ الغداءِ، أو من لحمِ ذلك الثَّورِ، فأجابَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: من ماءِ عَينٍ في الجَنَّةِ تُسمَّى سَلسبيلًا، كما قالَ تَعالَى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} [الإنسان: 17، 18]، وهي شَديدةُ الجَريِ، وقيلَ: هي السَّلِسةُ اللَّيِّنةُ، وسلسبيلٌ مَعناه: عذبٌ سهلُ الدُّخولِ في الحَلقِ فصَدَّقَ اليهوديُّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ قالَ: «وجِئتُ أسألُك عن شَيءٍ لا يَعلَمُه أحدٌ من أهلِ الأرضِ إلَّا نبيٌّ، أو رجُلٌ، أو رجُلانِ» كنايةً عن قِلَّةِ مَن يَعرِفُه، بحيثُ لا يَعرِفُه إلا مَن أوحَى اللهُ إليه بعِلمِه، أو مَن أخبَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلك، فسألَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «يَنفَعُك إنْ حدَّثْتُك؟ قالَ: أسمَعُ بأُذنَيَّ» أي: أسمعُ، ثُمَّ أنظُرُ فيما سَمِعتُ، هل هو مَحلٌّ للاتِّباعِ أم لا؟ فقالَ اليَهوديُّ: «جِئتُ أسألُك عنِ الولدِ؟» والمَعنى: من أيِّ شيءٍ يَكونُ الولدُ ذَكرًا أو أُنثى، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ماءُ الرَّجلِ أبيضُ» غليظٌ، «وماءُ المرأةِ أصفرُ» رَقيقٌ، فإذا اجتمَعا في رَحِمِ المرأةِ، وسَبَقَ وغَلَبَ مَنيُّ الرَّجلِ مَنيَّ المرأةِ؛ أتَيَا بوَلَدٍ ذكَرٍ، وإذا سَبَقَ وغَلَبَ مَنيُّ المرأةِ مَنيَّ الرَّجلِ، انعقَدَ الولدُ منهما أُنثى، فقالَ اليهوديُّ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لقد صدَقْتَ» في كلِّ ما أخبَرتَ به؛ لأنَّه مُوافِقٌ لِما كانَ أخَذَه منَ التَّوراةِ، وأقرَّ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالنُّبوَّةِ، ولكنَّه لم يَشهَد بذلك، وهذا يَدُلُّ على أنَّ مُجرَّدَ التَّصديقِ من غيرِ التِزامِ الشَّريعةِ، والدُّخولِ فيها لا يَنفَعُ؛ إذ لم يَحكُمْ له بالإسلامِ، ثُمَّ انصرَفَ عن مَجلِسِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لقد سَألَني هذا اليهوديُّ عنِ الَّذي سَألَني عنه من هذه المَسائلِ المُتقدِّمةِ، وما لي عِلمٌ بشَيءٍ منه حتَّى أوحَى اللهُ إليَّ بعِلمِه وجوابِه
وفِى الحديثِ: عَلامةٌ من عَلاماتِ نُبوَّتِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وإخبارُه بالغَيبيَّاتِ
وفيه: بيانُ ما كانَ عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من حُسنِ الخُلقِ
وفيه: بيانُ فَضلِ فُقَراءِ المُهاجِرينَ، حيثُ أكرَمَهمُ اللهُ تَعالَى بسَبقِ غيرِهم في الجوازِ على الصِّراطِ