باب تعبير الرؤيا3
سنن ابن ماجه
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا الحسن بن موسى الأشيب، حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن المسيب بن رافع
عن خرشة بن الحر، قال: قدمت المدينة فجلست إلى شيخة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء شيخ يتوكأ على عصا له، فقال القوم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا، فقام خلف سارية، فصلى ركعتين، فقمت إليه، فقلت له: قال بعض القوم كذا وكذا، قال: الحمد لله، الجنة لله يدخلها من يشاء، وإني رأيت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤيا، رأيت كأن رجلا أتاني فقال لي: انطلق، فذهبت معه، فسلك بي في منهج عظيم، فعرضت علي طريق على يساري، فأردت أن أسلكها، فقال: إنك لست من أهلها، ثم عرضت طريق عن يميني فسلكتها، حتى إذا انتهيت إلى جبل زلق فأخذ بيدي، فزجل بي، فإذا أنا على ذروته، فلم أتقار ولم أتماسك، وإذا عمود من حديد في ذروته حلقة من ذهب، فأخذ بيدي، فزجل بي، حتى أخذت بالعروة، فقال: استمسك، قلت: نعم. فضرب العمود برجله، فاستمسكت بالعروة.
ق ال: قصصتها على النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "رأيت خيرا: أما المنهج العظيم فالمحشر، وأما الطريق التي عرضت عن يسارك فطريق أهل النار، ولست من أهلها، وأما الطريق التي عرضت عن يمينك فطريق أهل الجنة، وأما الجبل الزلق فمنزل الشهداء، وأما العروة التي استمسكت بها، فعروة الإسلام، فاستمسك بها حتى تموت". فأنا أرجو أن أكون من أهل الجنة. وإذا هو عبد الله بن سلام (1)
كان عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه مِن أحْبارِ اليَهودِ وعُلمائِهم، وأسلَمَ بعْدَ قُدومِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى المَدينةِ مُهاجِرًا، وأقامَ الحُجَّةَ على اليَهودِ بأنَّهم قَومٌ بُهتٌ، وشَهِد عليهم بذلك.
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي التَّابِعيُّ قَيسُ بنُ عُبَادٍ أنَّه كان جالِسًا في مَسجِدِ المَدينةِ، فدَخَل عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه، وعلى وَجهِه أثَرُ الخُشوعِ، فقال عنه بعضُ الجُلوسِ لمَّا رأَوْه: هذا رَجلٌ مِن أهلِ الجَنَّةِ، وقالوا هذا ممَّا عَلِموه مِن تَبْشيرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ له بالجنَّةِ، فوقَفَ عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ، فصلَّى رَكعَتَينِ خَفيفَتَينِ، أتى فيهما بفَرائضِ الصَّلاةِ دونَ تَقْصيرٍ، ثُمَّ خرَج مِن المَسجِدِ، فتَبِعَه قَيسٌ، وأخبَرَه بما قيلَ له عنه مِن أنَّه رَجلٌ مِن أهلِ الجنَّةِ، وكأنَّه يَستَفسِرُ عن ذلك منه، فقال عبدُ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه: «واللهِ لا يَنبَغي لأحدٍ أنْ يَقولَ ما لا يَعلَمُ»، وفي رِوايةِ الصَّحيحَينِ: «سُبحانَ اللهِ! ما كان يَنْبغي لهمْ أنْ يَقولوا ما لَيس لهمْ به عِلمٌ»، فتَعجَّبَ وأنكَرَ عليهم الجَزمُ، ولم يُنكِرْ أصْلَ الإخبارِ بأنَّه مِن أهْلِ الجنَّةِ، وهكذا يكونُ شَأنُ المُراقِبينَ الخائفينَ المُتواضِعِين، وحَدَّثه بسَببِ قَولِهم هذا؛ وذلك أنَّه رَأى نفْسَه في المَنامِ في رَوْضةٍ خَضْراءَ، أي: حَديقةٍ خَضْراءَ، وأنَّها كانت واسِعةً جدًّا وشَديدةَ الخُضرةِ، وكان في وسْطِها عَمودٌ، وكان العَمودُ مُمتَدًّا رَأسيًّا: أسفَلُه في الأرضِ، وأعْلاه في السَّماءِ، وفي أعْلاه عُرْوةٌ، وهي الحَلْقةُ، يقولُ عبدُ اللهِ: فقيلَ: ارْقَ، أي: ارتَفِعْ واصعَدْ عليه، فتَعذَّرَ له أنَّه لا يَستَطيعُ، فأتاني مِنْصَفٌ، وفي رِوايةٍ: «وَصيفٌ» وهو الخادِمُ، فرفَعَ هذا الخادم ثِيابي مِن خَلْفي، فرَقِيتُ حتَّى كنتُ في أعْلى العمودِ، فأخذْتُ بالعُرْوةِ فأمسَكْتُ بها، فقيلَ: استَمسِكْ وبالِغْ في المَسْكِ، فاستَيقَظْتُ وإنَّها لفي يَدي، أي: إنَّ الاسْتيقاظَ كان حالَ الأخْذِ مِن غَيرِ فاصِلٍ، فلمْ يُرِدْ أنَّها بَقيَتْ في يَدِه حالَ يَقَظَتِه، ويُحتَمَلُ أنْ يُريدَ أنَّ أثَرَها بَقيَ في يَدِه بعْدَ الاسْتيقاظِ، كأنْ يُصبِحَ فيَرى يَدَه مَقْبوضةً، فقَصَّ رُؤْياه تلك على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ففسَّرَها له، فقال: «تلك الرَّوْضةُ: الإسْلامُ، وذلك العَمودُ: عَمودُ الإسْلامِ، وتلك العُرْوةُ: عُرْوةُ الوُثْقى»؛ مَأْخوذةٌ مِن الحَبلِ الوَثيقِ المُحكَمِ المَأْمونِ انْقِطاعُه، ثمَّ قال له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «فأنتَ على الإسْلامِ حتَّى تَموتَ»، وهذه بُشْرى عَظيمةٌ، وشَهادةٌ له أنَّه مِن أهلِ الجَنَّةِ؛ لأنَّ الجنَّةَ إنَّما يَدخُلُها المُسلِمونَ.
وفي الحَديثِ: مَنقَبةٌ لعَبدِ اللهِ بنِ سَلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه، حيث بُشِّرَ بأنَّه سَيظَلُّ على الإسْلامِ طَوالَ حَياتِه.
وفيه: أنَّ الرُّؤْيا الصَّالِحةَ تَكونُ بُشْرى للمؤمِنِ.