باب تقرير النعم يوم القيامة على الكافر والمنافق
بطاقات دعوية
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال هل تضارون (1) في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة قالوا لا قال فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة قالوا لا قال فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم عز وجل إلا كما تضارون في رؤية أحدهما قال فيلقى العبد فيقول أي فل (2) ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى أي رب قال فيقول أفظننت أنك ملاقي فيقول لا فيقول فإني أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثاني فيقول أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى يا رب فيقول أفظننت أنك ملاقي فيقول لا فيقول إني أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع قال فيقول ههنا إذا قال ثم يقال له الآن نبعث شاهدنا عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه. (م 8/ 216)
قَضى اللهُ عزَّ وجلَّ ألَّا يَراهُ خَلْقُه في الحياةِ الدُّنيا، وسيُنعِمُ على عِبادِه الصَّادقينَ برُؤيتِه سُبحانه في الآخرةِ، وهذا مِن أكمَلِ النِّعَمِ الَّتي يَنالُها المؤمنُ في الآخرةِ
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ أبو هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ الصَّحابةَ رَضيَ اللهُ عنهم سَأَلوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن رُؤيتِهم للهِ عزَّ وجلَّ يومَ القيامةِ، فأجابَهُم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «نعمْ»، وأكَّدَ لهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الجوابَ بتَصويرٍ يَظهَرُ فيه مَدى تَحقُّقِ وتَبايُنِ تلك الرُّؤيةِ، فسَأَلهم: «هلْ تُضارُّونَ في رُؤيةِ الشمسِ في الظَّهيرةِ؟»، أي: هلْ يُصيبُ بعضُكم بعضًا بالضَّررِ مِن المزاحَمةِ والمدافَعةِ عند النَّظرِ إلى الشمسِ، أم أنَّ كُلًّا منكم يَنظرُ إلَيها بسُهولةٍ دونَ أن تَتدافَعوا أو تَتزاحَموا؟ في حالِ كانتِ الشَّمسُ لَيْسَت في سَحابٍ أو غُيومٍ تَحجُبها عن الرُّؤيةِ، قالوا: «لا»؛ فالجميعُ يَرى الشَّمسَ دونَ أنْ يَحجُبَها وُجودُ النَّاسِ. فقال لهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أيضًا: «فهَلْ تُضارُّونَ في رُؤيةِ القَمرِ ليلةَ البَدر» أي: مُكتمِلًا ومُضيئًا في وُضوحٍ تامٍّ، والمعنى: هلْ يَضرُّ بعضُكم بعضًا مِن التَّدافُعِ والتَّزاحُمِ حِينما تَنظرون إلى القَمرِ ليلةَ البدرِ أم أنَّكم جميعًا تَنظرونَ وكلُّكم يَنظُر إليه بسهولةٍ دونَ ضَررٍ أو تَعبٍ، وليس القَمرُ في سَحابٍ أو غُيومٍ يحجبه عن الرُّؤيةِ؟ فأجابوا بمِثلِ ما أجابُوا في حالةِ الشَّمسِ أنَّهم لا يَتضرَّرون، فأقسَمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «فوالَّذي نَفسي بيدِه»؛ وذلكَ لأنَّ اللهَ هو الَّذي يملِكُ الأنفُسَ، وكثيرًا ما كان يُقسِمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بهذا القَسمِ، «لا تُضارُّونَ في رُؤيةِ ربِّكم» فإنَّكم سَترَونَ ربَّكم دُونَ أن يُصيبَكم ضررٌ ودُونَ مُغالبةٍ أو مدافعةٍ أو مزاحمةٍ في رُؤيتِه، بلْ سَترَونه بسُهولةٍ وتَتمتَّعون بالنَّظرِ إلى جَمالِه وجلالِه، كما لا تُضارُّونَ في رُؤيةِ الشَّمسِ والقمرِ وهما واضحانِ ليْسَا في سَحابٍ أو غيومٍ، فكذلِك تَكونُ رُؤيتُه جلَّ جلالُه جَليَّةً بيِّنةً كما لا يُشَكُّ في رُؤيةِ الشَّمسِ والقمرِ، وهذا تَشبيهٌ للرُّؤيةِ بالرُّؤيةِ مِن حيثُ جَلاؤُها وظُهورُها، وليس تَشبيهًا للمَرئيِّ بالمرئيِّ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ليس كمثلِه شيءٌ
قيل: إنَّما خَصَّ الشَّمسَ والقمرَ بالذِّكرِ، مع أنَّ رُؤيةَ السَّماءِ بغيرِ سَحابٍ أكبَرُ آيةٍ، وأعظَمُ خَلقًا مِن مُجرَّدِ الشَّمسِ والقمرِ؛ لِما خُصَّا به مِن عَظيمِ النُّورِ والضِّياءِ، بحيثُ صار التَّشبيهُ بهما فيمَن يُوصَفُ بالجمالِ والكمالِ سائغًا شائعًا في الاستعمالِ
ثمَّ أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن بعضِ ما في يومِ حِسابِ اللهِ للعبادِ، فأخبَرَ أنَّ اللهَ سُبحانه يَلقى العبدَ، وذلكَ العبدُ الكافرُ أو الفاجرُ، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ للعبدِ فيُناديه: «أي فُلُ»، أي: يا فلانُ، «ألم أكرِمْكَ»، أي: ألستُ قد أكرمتُك في الدُّنيا وأحسَنْتُ إليكَ بنِعَمي في الدُّنيا، «وأسوِّدْكَ»، أي: وجعَلْتُكَ سيِّدًا، «وأزوِّجْك»، أي: وأعطَيْتُكَ زَوجةً، وجَعَلْتُ بيْنكَ وبيْنها مَودَّةً، ورحمةً، ومُؤانَسةً، وأُلفةً، «وأسخِّرُ لكَ الخيلَ والإبلَ»، فكانت في خِدمتِك وطَوعِكَ للحَملِ والرُّكوبِ والزِّينةِ، وفي حُكمِها الآلاتُ الحديثةُ كالسَّيَّارةِ ونحوِها، «وأَذَرْكَ تَرأسُ» تكونُ رئيسًا وتَتولَّى أمورًا للنَّاسِ، «وتَربَعُ؟» قيلَ: معناها: تأخذُ رُبعَ الغَنيمةِ، وكانوا في الجاهِليَّةِ يأخذُ سيَّدُ القومِ ورئيسُهم رُبُعَ الغَنيمةِ، وقيلَ: تَستريحُ، ورَواهُ بعضُهم (تَرتَعُ) أي: تَتنعَّمُ وتَأكُلُ في سَعةٍ، وكلُّ هذه نِعمُ اللهِ، فلا تَحتاجُ إلى كُلفةٍ وطَلبٍ. فيُقِرُّ العبدُ بكلِّ تلك النِّعمِ، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ للعبدِ: «أفظننتَ أنَّك ملاقِيَّ؟»، أي: هلْ كنتَ تظنُّ أنك سَتلقاني وتقِف بينَ يَديَّ للحسابِ والجزاءِ؟ «فيقولُ العبدُ: لا» ما ظنَنتُ أنِّي مُلاقِيكَ يا ربِّ في الآخرةِ للمُجازاةِ، وذلكَ من نِسيانِه لربِّه واشتِغالِه بدُنياه عن آخرتِه، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: «فإنِّي أنساكَ كما نَسيتَني» جَزاءً وِفاقًا، فأتْرُكُكَ ولنْ أمنَحَكَ رَحمتي ومَغفرتي؛ لأنَّكَ نَسيتني في الدُّنيا، ولم تَفعَلْ ما أمرْتُكَ به وما كنتَ تُؤمِنُ أنَّكَ ستَلْقاني
ثمَّ يَلقى اللهُ رجلًا آخَرَ، وذلك الرَّجلُ كافرٌ أو فاجرٌ، فيقولُ له بمِثلِ ما قالَ للأوَّلِ، ويقَعُ جَوابُ الرَّجلِ بمِثلِ جَوابِ الرَّجلِ الأوَّلِ، فيُعاقِبُه اللهُ بمِثلِه
ثمَّ يَلقى اللهُ سُبحانه رجُلًا ثالثًا، فيقولُ اللهُ سُبحانه لذلكَ العبدِ مثلَ ما قالَ للعَبدَينِ الآخرَينِ، فيقولُ العبدُ للهِ: «يا ربِّ، آمنتُ بكَ، وبكتابِك، وبرُسلِكَ»، فآمنتُ بك وشَهِدتُ أنَّه لا إلهَ إلَّا أنتَ، وآمنْتُ بكُتبِك المُنزَّلةِ من السَّماءِ، وآمنتُ برُسُلِك الَّتي أرسَلْتَها بما يُبلِّغونَنا عنكَ ربَّنا»، وأقَمْتُ العباداتِ على الوجهِ الَّذي أمَرْتَني به، فصَلَّيتُ الصَّلواتِ الَّتي فرَضْتَها علَيَّ، وصُمتُ ما أمرْتَني به، وتصدَّقتُ من مالي، ويُخبرُ العبدُ ربَّه بكلِّ ما يَتذكَّرُه مِن أفْعالِ الخيرِ الَّتي عمِلَها في الدُّنيا، فيقولُ اللهُ للعبدِ: «هَاهنا إذنْ»، أي: قِفْ هاهنا معَ ما ذكَرْتَ مِن أعمالٍ؛ لكيْ نأتيَ بالشُّهودِ عليكَ، فيُصدِّقوك أو يُكذِّبوك، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ثمَّ يُقالُ له: الآنَ نَبعثُ شاهِدَنا عليكَ»، أي: نأتي بالَّذي وكَّلْناهُ يَشهَدُ عليكَ، ويُحدِّثُ العبدُ نفْسَه مُتفكِّرًا: مَن هذا الَّذي سَيأتي ويَشهَدُ علَيَّ؟! فيُطبِقُ اللهُ على فَمِ الرَّجلِ، فما يَستطيعُ الكلامَ، فيَأذَنُ اللهُ عزَّ وجلَّ لأعضاءِ ذلك الرَّجلِ «فَخِذِه ولحمِه وعِظامِه» بأنْ تَنطِقَ وتَشهَدَ على فِعلِ هذا العبدِ، فتَتكلَّمَ أعضاؤُه وتُقرَّ بما فَعَلَ وما صَنعَ في حياتِه في الدُّنيا، وذلكَ ليُزيلَ اللهُ به عُذرَه الَّذي كان يحاجُّ بهِ ويُجادِلُ عنه، ويَذكُرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ هذا الرَّجلَ هو المنافقُ؛ لأنَّ أعمالَه الَّتي عَدَّدها وذَكَرها إنَّما كانتْ لنِفاقِه، فهو يُظهِرُ ويَبْدو للنَّاسِ أنَّه مِن أهلِ الإيمانِ، وهو في حَقيقتِه يُبطِنُ ويُسِرُّ الكُفرَ والمعاصيَ؛ ولذلكَ يَغضَبُ اللهُ عليهِ فيُعاقِبُه ويُجازِيه
وفي الحديثِ: بيانُ حِسابِ اللهِ للعبدِ ووقوفِه بينَ يديهِ
وفيه: إثباتُ سُؤالِ اللهِ عزَّ وجلَّ عِبادَه عن أداءِ شُكرِ ما أنْعَمَ به عليهم
وفيه: بيانُ شَهادةِ أعضاءِ الإنسانِ، ونُطقِها بما فعَلَ صاحِبُها يومَ القيامةِ
وفيه: بيانُ جَزاءِ المنافقِ وعِقابِه، وغَضبِ اللهِ تَعالَى عليهِ