باب: ثواب السرية التي تخفق 2
سنن النسائي
أخبرني إبراهيم بن يعقوب، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن يونس، عن الحسن، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه عز وجل، قال: «أيما عبد من عبادي خرج مجاهدا في سبيل الله ابتغاء مرضاتي، ضمنت له أن أرجعه، إن أرجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة، وإن قبضته غفرت له ورحمته»
الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ لَهُ في الإسلامِ مَنْزلةٌ عاليةٌ؛ لِمَا فيه مِن الفَضْلِ والأَجْرِ الَّذي يُفضَّلُ به على كثيرٍ من العِباداتِ
وفي هذا الحديثِ يَقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «تَضمَّنَ اللهُ»، وفي روايةٍ في الصَّحيحينِ: «تَكفَّلَ اللهُ» أي: أَوْجَبَ اللهُ تعالَى على نَفْسِه، وهذا الضَّمانُ والكفالةُ مُوافِقٌ لقَولِه تعالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة: 111]، وذلك «لِمَن خَرَج» يُريدُ الغزوَ والجِهادَ في سبيلِ اللهِ وضِدَّ أعداءِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ولا تكون نيَّتُه في الخُروجِ إلَّا للهِ عزَّ وجلَّ، وهو مُؤمنٌ إيمانًا مَحْضًا باللهِ سُبحانه ومُؤمنًا برُسُلِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وبما أُرْسِلوا به الَّذين ذَكَرَهم سُبْحانَه في كتابِه وبيَّنتْه سُنَّةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كان جَزاؤه عِنْد اللهِ تعالَى ضَمانُه سُبحانَه أنْ يُدْخِلَه الجَنَّةَ، وذلك إنْ قُتِلَ في المَعْركةِ، فإنْ لم يُقْتَلْ جَعَل اللهُ عزَّ وجلَّ له أجرًا عظيمًا في الآخرةِ، ورَزَقَهُ الغنيمةَ في الدُّنيا وأعادهُ إلى مَسكَنِه بما نالَهُ مِن ذلك
ثمَّ حَلَف النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ باللهِ عزَّ وجلَّ الَّذي يَمْلِكُ نفْسَه بيده؛ فهو خالِقُها ومُدبِّرُ أمْرِها -وكثيرًا ما كان يُقْسِمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بهذا القَسَمِ- أنَّه ما مِن مُسلِمٍ يُصِيبُه جُرْحٌ أثناءَ القِتالِ في سَبيلِ اللهِ، إلَّا جاء يَومَ القيامةِ على حالتِه الَّتي جُرحِ به في الدُّنيا عندَما طُعِنَ، يَسيلُ ويَتفجَّرُ منها الدَّمُ، ولكنَّ هذا الدَّمَ وإنْ كان لوْنُه لوْنَ الدَّمِ، إلَّا أنَّ رائحتَه تكونُ طَيِّبةً مِثلَ رائحةِ المِسْكِ. قيل: الحِكمةُ في كَونِ الدَّمِ يَأتي يومَ القِيامةِ على هَيئتِه أنَّه يَشهَدُ لِصاحِبِه بفَضْلِه، وعلى قاتِلِه بفِعلِه، وفائدةُ رائحتِه الطَّيِّبةِ أنْ تَنتشِرَ في أهلِ الموقفِ؛ إظهارًا لفَضيلتِه أيضًا، ومِن ثَمَّ لم يُشرَعْ غَسْلُ شَهيدِ المَعركةِ
ثمَّ أقسَمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه لولا أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَخْشى المشقَّةَ والتَّعَبَ على المسْلِمين، ما تَرَك غَزوًا إلَّا خَرَجَ إليهِ، وما جَلَس خلْفَ سَريَّةٍ خَرَجَت للجهادِ في سَبيلِ اللهِ أبدًا، بلْ يَخرُجُ مع كلِّ سَريَّةٍ لِيَنالَ فَضيلةَ الجهادِ، والسَّرِيَّةُ: القِطْعَةُ من الجيشِ يَبْلُغُ أقصاها أَرْبَعَ مائةٍ رجُلٍ، ولكنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يَملِكُ مِن الدَّوابِّ الَّتي تَحمِلُ المسْلِمين في السَّفرِ، وتَعْبُرُ بهم إلى الغَزْوِ، وكذلك هم لا يَملِكُون من الدَّوابِّ الَّتي تُعِينُهم وتَحْمِلُهم؛ ليَكونوا مع رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويعودُ عَجْزُهم عن اللَّحاقِ برَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالمشقَّة عليهم، سواءٌ اتَّبَعُوه وسارَوا معه مَشيًا على الأقدامِ، أو قَعَدوا وتَخلَّفُوا عنه حين يَخرُجُ، ثمَّ أقسَمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «والَّذي نَفْسُ محمَّدٍ بيدِه، لوَدِدتُ أنْ أَغْزُوَ في سبيلِ اللهِ فأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فأُقْتَلُ»، فهو يَتمنَّى أنْ يُجاهِدَ فيُقَتَل، ثمَّ يُبْعَثَ فيُجاهِدَ فيُقتَلَ مرَّاتٍ مُتكرِّرةً عَديدةً؛ وذلك لِما في الجهادِ والغزوِ وبَذلِ النَّفْسِ في سَبيلِ اللهِ مِن عظيمِ الفَضْلِ والأَجْرِ
وفي الحديثِ: الحثُّ على الجِهادِ والخُروجِ في سبيلِ اللهِ تعالى
وفيه: بيانُ ما كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من شَفَقَةٍ ورَحْمةٍ بالمسلمين