حدثنا سليمان، وأبو سعيد، يعني مولى بني هاشم قالا: حدثنا شعبة قال: حدثنا موسى بن أنس، سمع أنسا، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا "
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَؤوفًا رحيمًا بأُمَّتِه، وحثَّها على مُلازَمةِ الرِّفقِ في الأعمالِ، والاقتصارِ على ما يُطِيقُ العاملُ، ويُمكِنُه المُداوَمةُ عليه، وأنَّ مَن شَادَّ الدِّينَ وتَعمَّقَ، انقطَع، وغلَبَه الدِّينُ وقهَرَهُ.
وفي هذا الحديثِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "والَّذي نفْسِي بيَدِه، لو تَعْلَمون ما أعلَمُ"، أي: يُقْسِمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ باللهِ ويَقولُ: لو كُنتُم تَعْلَمون ما أعلَمُ مِن عِظَمِ الأمْرِ وهَولِه وشِدَّتِه، "لَضَحِكْتُم قَليلًا ولَبَكيتُم كَثيرًا"، أي: لَقَلَّ ضَحِكُكم، ولَزادَ بُكاؤُكم؛ مِن هَولِ ما تَعلَمون، ويُحتمَلُ أنْ يُرادَ بالقِلَّةِ العدَمُ، وهو استعمالٌ شائعٌ، أو المُرادُ التَّعليلُ حقيقةً؛ فإنَّهم إذا عَلِموا ما عندَ اللهِ مِن سَعةِ الرَّحمةِ والعفْوِ ضَحِكوا، وإنْ عَلِموا ما عندَهُ مِن شِدَّةِ العذابِ والبطْشِ، وعَلِموا تَقصيرَهم فيما يأْتونَه؛ لَكانَ البُكاءُ أكثَرَ، كما قال: (ولَبكَيْتُم كثيرًا)؛ لِغَلبةِ سُلطانِ الوجَلِ على القُلوبِ، "ثمَّ انصرَفَ، وأبْكَى القومَ، وأوحى اللهُ عَزَّ وجَلَّ إليه: يا محمَّدُ، لِمَ تُقنِطُ عِبادي؟" والقنوطُ: اليأْسُ مِن الخيرِ، "فرجَعَ، فقال: أبْشِروا وسَدِّدُوا وقارِبوا"، أي: أبْشِروا بالثَّوابِ على العَملِ وإنْ قَلَّ، ثمَّ وصَّى بالتَّسديدِ والمُقارَبةِ، وتَقويةِ النُّفوسِ بالبِشارةِ بالخيرِ، وعَدمِ اليأْسِ، والتَّسديدُ: هو العملُ بالقصدِ، والتَّوسُّطِ في العِبادةِ، فلا يُقصِّرُ فيما أُمِرَ به، ولا يَتحمَّلُ منها ما لا يُطِيقُه، مِن غيرِ إفراطٍ ولا تَفريطٍ، وقولُه: "وقارِبوا"، أي: إنْ لم تَسْتَطيعوا الأخْذَ بالأَكْملِ، فاعْمَلوا بما يَقرُبُ منه.
وفي الحديثِ: عدَمُ تَيئيسِ النَّاسِ مِن رَحمةِ اللهِ وسَعةِ عَفْوِه.