باب سن سنة حسنة 1
بطاقات دعوية
من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده،من غير أن ينقص من أجورهم شيء،ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ، ووزر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء )) رواه مسلم .
قوله : (( مجتابي النمار )) هو بالجيم وبعد الألف باء موحدة ، والنمار جمع نمرة وهي كساء من صوف مخطط . ومعنى (( مجتابيها )) ، أي : لابسيها قد خرقوها في رؤوسهم . و(( الجوب )) القطع ، ومنه قوله تعالى : { وثمود الذين جابوا الصخر بالواد } أي نحتوه وقطعوه . وقوله : (( تمعر )) هو بالعين المهملة : أي تغير . وقوله : (( رأيت كومين )) بفتح الكاف وضمها : أي صبرتين . وقوله : (( كأنه مذهبة )) هو بالذال المعجمة وفتح الهاء والباء الموحدة قاله القاضي عياض وغيره وصحفه بعضهم ، فقال : (( مدهنة )) بدال مهملة وضم الهاء وبالنون وكذا ضبطه الحميدي . والصحيح المشهور هو الأول . والمراد به على الوجهين : الصفاء والاستنارة .
كان النبي صلى الله عليه وسلم معلما حكيما، وكان يراعي أحوال الناس حوله، فيعلمهم ما يكون مناسبا لهم في كل موقف، ومن ذلك حثه على التصدق على الفقراء والمحتاجين
وفي هذا الحديث يروي جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنهم كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول النهار، «فجاءه قوم حفاة»، جمع حاف، وهو من لا يكون في رجله خف ولا نعل ولا حذاء، فلا يلبسون شيئا في أقدامهم، «عراة» كأنهم يغلب عليهم العري، وكأنهم يلبسون بعض الثياب التي تغطي عوراتهم مع تكشف باقي الجسد، «مجتابي» الاجتياب: التقطيع والخرق، «النمار» كساء مخطط من صوف، فيه سواد وبياض، كأنها أخذت من لون النمر، أي: لابسي النمار المخرقة، وعبر عن لبسهم بالاجتياب لكونهم قد لفوها على جسدهم، فجعلوا أنفسهم في وسطها، أو لكونهم قد خرقوها من وسطها وأدخلوا أنفسهم فيها، أو يلبسون «العباء» جمع عباءة، وهي نوع من الثياب، وكل هذا علامات على فقرهم الشديد، وكان من صفتهم أيضا أنهم يعلقون السيوف على أعناقهم، كلهم من قبيلة مضر، وهي قبيلة عربية كبرى، وفي رواية: أنهم كانوا أعرابا، جمع أعرابي، وهو الذي يسكن الصحراء من العرب، فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم على تلك الحال، تغير وجهه صلى الله عليه وسلم، وظهر عليه آثار الحزن؛ لما رأى بهم من الفقر الشديد، فدخل بيته ثم خرج إلى صلاة الظهر حين دخل وقتها، كما في رواية أخرى، فأمر صلى الله عليه وسلم مؤذنه بلال بن رباح رضي الله عنه، فأذن للصلاة، ثم أقام لها، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه رضي الله عنهم، وبعد الانتهاء من الصلاة صعد المنبر فخطب، وفي رواية أخرى: «صعد منبرا صغيرا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد» وهي كلمة يفصل بها بين الكلامين عند إرادة الانتقال من كلام إلى غيره، والمعنى: أقول بعد ما تقدم من التشهد والثناء على الله سبحانه وتعالى، فقرأ قول الله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء: 1]، وهي أول سورة النساء، وفيها: ينادي الله عز وجل على عباده ويأمرهم بالتقوى، وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه، فهو الذي خلقهم من نفس واحدة، وهو أبوهم آدم، وخلق من آدم زوجه حواء أمهم، ونشر منهما في أقطار الأرض بشرا كثيرا ذكورا وإناثا، ثم أعاد سبحانه عليهم الأمر بالتقوى تأكيدا على أهميتها للمسلم، الذي إذا سأل به بعضكم بعضا أجابه فيما سأل، فكذلك فعظموه بطاعتكم إياه فيما أمركم، واتقوا قطع الأرحام التي تربط بينكم، إن الله كان عليكم رقيبا، فلا يفوته شيء من أعمالكم، بل يحصيها ويجازيكم عليها.
ثم قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} [الحشر: 18]، يخص الله عز وجل النداء في تلك الآية بالمؤمنين، وبعد أن أمرهم سبحانه بالتقوى، دعاهم إلى بذل ما يحفظهم في الآخرة من الأعمال الصالحات
ثم وعظهم وحثهم صلى الله عليه وسلم في خطبته على الصدقة، وقال: «تصدق رجل» خبر بمعنى الأمر، أي: ليتصدق رجل حسب استطاعته «من ديناره» الذهبي أو «من درهمه» الفضي أو «من ثوبه» أو «من صاع بره» وهو القمح، أو «من صاع تمره»، وهذا من التصدق بالطعام، والصاع نوع من المكاييل التي كانت تستخدم في عهده صلى الله عليه وسلم، لا يراد به هنا حقيقته، بل حث لهم على ما يمكن التصدق به، «حتى قال: ولو بشق تمرة»، أي: نصف تمرة
وأخبر جرير رضي الله عنه أن رجلا من الأنصار -وهم أهل المدينة- جاء «بصرة» وهو كيس مربوط فيه من الدراهم أو الدنانير، عجزت يده عن حملها؛ لثقلها من كثرة ما فيها، ثم تتابع الناس وتوالوا في إعطاء الصدقات، حتى رأى جرير بن عبد الله رضي الله عنه «كومين» والكوم بالضم: العظيم من كل شيء، والكوم بالفتح: المكان المرتفع، وهو الأولى؛ لأن المقصود التكثير، «من طعام وثياب»، ولعل الاقتصار عليه من غير ذكر النقود لغلبته، حتى رأى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنير فرحا وسرورا، كأنه «مذهبة» وهي الفضة المطلية أو المخلوطة بالذهب، وهو أبلغ في حسن الوجه وإشراقه، ومعناه: ظهور البشر في وجهه صلى الله عليه وسلم حتى استنار وأشرق من السرور، فرحا بمبادرة المسلمين إلى طاعة الله ورسوله ببذل أموالهم، ودفع حاجة هؤلاء المحتاجين، وشفقتهم على إخوانهم، وتعاونهم على البر والتقوى
ثم قال صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة»، أي: أتى بطريقة مرضية يشهد لها أصل من أصول الدين، أو صار باعثا وسببا لترويج أمر ثابت في الشرع، فاقتدى به غيره فيه؛ فله ثواب العمل بها، وأجر من عمل بها من بعد ما سن، من غير أن ينقص من ثواب وأجور العاملين بها شيء، قليل ولا كثير؛ لأنه أجر على تسببه في عملهم ولا أجر على عملهم، وهذا إشارة إلى ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على الرجل الأنصاري الذي أتى بالصرة، وبيان لفضيلته، والترغيب في فعله، «ومن سن في الإسلام سنة سيئة»، أي: فعل فعلا قبيحا وطريقة غير مرضية لا يشهد لها أصل من أصول الدين، وبدأ العمل بها قبل غيره، فاقتدى به فيه؛ كان عليه إثمها، وإثم من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من آثامهم شيء
وفي الحديث: الحث على البداءة بالخير؛ ليستن به، والتحذير من البداءة بالشر؛ خوف أن يستن به
وفيه: الترغيب في الخير المتكرر أجره بسبب الاقتداء، والتحذير من الشر المتكرر إثمه بسبب الاقتداء
وفيه: رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته