باب في الاقتصاد في العبادة 8
بطاقات دعوية
وعن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، قال : أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أني أقول : والله لأصومن النهار ، ولأقومن الليل ما عشت . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أنت الذي تقول ذلك ؟ )) فقلت له : قد قلته بأبي أنت وأمي يا رسول الله . قال : (( فإنك لا تستطيع ذلك فصم وأفطر ، ونم وقم ، وصم من الشهر ثلاثة أيام ، فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر )) قلت : فإني أطيق أفضل من ذلك ، قال : (( فصم يوما وأفطر يومين )) قلت : فإني أطيق أفضل من ذلك ، قال : (( فصم يوما وأفطر يوما فذلك صيام داود - صلى الله عليه وسلم - ، وهو أعدل الصيام )) .
وفي رواية : (( هو أفضل الصيام )) فقلت : فإني أطيق أفضل من ذلك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا أفضل من ذلك )) ، ولأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إلي من أهلي ومالي .
في رواية : (( ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ؟ )) قلت : بلى ، يا رسول الله ، قال : (( فلا تفعل : صم وأفطر ، ونم وقم ؛ فإن لجسدك عليك حقا ، وإن لعينيك عليك حقا ، وإن لزوجك عليك حقا ، وإن لزورك عليك حقا ، وإن بحسبك أن تصوم في كل شهر ثلاثة أيام ، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها ، فإن ذلك صيام الدهر )) فشددت فشدد علي ، قلت : يا رسول الله ، إني أجد قوة ، قال : (( صم صيام نبي الله داود ولا تزد عليه )) قلت : وما كان صيام داود ؟ قال : (( نصف الدهر )) فكان عبد الله يقول بعدما كبر : يا ليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وفي رواية : (( ألم أخبر أنك تصوم الدهر ، وتقرأ القرآن كل ليلة ؟ )) فقلت : بلى ، يا رسول الله ، ولم أرد بذلك إلا الخير ، قال : (( فصم صوم نبي الله داود ، فإنه كان أعبد الناس ، واقرأ القرآن في كل شهر )) قلت : يا نبي الله ، إني أطيق أفضل من ذلك ؟ قال : (( فاقرأه في كل عشرين )) قلت : يا نبي الله ، إني أطيق أفضل من ذلك ؟ قال : (( فاقرأه في كل عشر )) قلت : يا نبي الله ، إني أطيق أفضل من ذلك ؟ قال : (( فاقرأه في كل سبع ولا تزد على ذلك )) فشددت فشدد علي وقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر )) قال : فصرت إلى الذي قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - . فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة
نبي الله - صلى الله عليه وسلم - .
وفي رواية : (( وإن لولدك عليك حقا )) .
وفي رواية : (( لا صام من صام الأبد )) ثلاثا .
وفي رواية : (( أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود ، وأحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود : كان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه ، وكان يصوم يوما ويفطر يوما ، ولا يفر إذا لاقى ))
وفي رواية قال : (( أنكحني أبي امرأة ذات حسب وكان يتعاهد كنته - - أي : امرأة ولده - فيسألها عن بعلها . فتقول له : نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشا ، ولم يفتش لنا كنفا منذ أتيناه . فلما طال ذلك عليه ذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : (( القني به )) فلقيته بعد ذلك ، فقال : (( كيف تصوم ؟ )) قلت : كل يوم ، قال : (( وكيف تختم ؟ )) قلت : كل ليلة ، وذكر نحو ما سبق ، وكان يقرأ على بعض أهله السبع الذي يقرؤه ، يعرضه من النهار ليكون أخف عليه بالليل ، وإذا أراد أن يتقوى أفطر أياما وأحصى وصام مثلهن كراهية أن يترك شيئا فارق عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
كل هذه الروايات صحيحة ، معظمها في الصحيحين ، وقليل منها في أحدهما .
لم يأمر الله سبحانه وتعالى هذه الأمة بالانقطاع للعبادة؛ فلا رهبانية في الإسلام كالتي ابتدعها النصارى في دينهم
وفي هذا الحديث يروي أبو جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء عويمر بن قيس الأنصاري رضي الله عنهما مؤاخاة مواساة، وليست كالتي في أول الهجرة التي كانت عقدت بين المهاجرين والأنصار ليتوارثوا بها؛ فقد نسخت، فزار سلمان الفارسي أبا الدرداء رضي الله عنهما ذات يوم، فوجد أم الدرداء خيرة بنت أبي حدرد الأسلمية رضي الله عنها متبذلة، يعني تلبس ثياب الخدمة وعمل البيت وتترك التزين، فسألها عن سبب هذه الحالة، فقالت له: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا؛ استحياء من أن تصرح بعدم حاجته إلى مباشرتها، وكانت هذه الزيارة وهذا الحوار قبل أن يفرض الحجاب على المسلمات، ثم دخل أبو الدرداء فصنع لسلمان طعاما يأكله، فقال سلمان لأبي الدرداء: كل معي، فرد عليه أبو الدرداء أنه صائم، فقال له سلمان: ما أنا بآكل من طعامك شيئا حتى تأكل، وغرضه بذلك صرف أبي الدرداء عما يصنعه من الجهد في العبادة وغير ذلك مما تضررت منه أم الدرداء زوجته، فأكل معه أبو الدرداء نزولا على رغبته، ثم بات سلمان عند أبي الدرداء، فلما انقضى جزء من الليل قام أبو الدرداء ليصلي، فأمره سلمان أن ينام، فنام أبو الدرداء، ثم ذهب يقوم في وقت آخر، فقال له سلمان: نم، فلما كان من آخر الليل، قال له سلمان: قم الآن، وقام معه سلمان فصليا، ثم نصحه سلمان وبين له أن لله عليه حقا بالعبادة، ولنفسه وجسده عليه حقا بالراحة ونحوها، وأن لأهله من الزوجة والأولاد عليه حقا، كحسن المعاشرة والتربية، وتعهدهم بما يصلح حال دينهم ودنياهم، وأرشده أن يعطي كل صاحب حق حقه، ثم أتى أبو الدرداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر له ما قال سلمان رضي الله عنه، فقال صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان فيما قاله وما ذهب إليه
وفي الحديث: دليل على أن الإنسان لا ينبغي له أن يكلف نفسه بالصيام والقيام، وإنما يصلي ويقوم على وجه يحصل به الخير، ويزول به التعب والمشقة والعناء
وفيه: مشروعية المؤاخاة في الله، وزيارة الإخوان، والمبيت عندهم
وفيه: مخاطبة الأجنبية للحاجة، والنصح للمسلم
وفيه: فضل قيام آخر الليل
وفيه: النهي عن المستحبات إذا خشي أن ذلك يفضي إلى السآمة والملل، وتفويت الحقوق المطلوبة
وفيه: كراهية الحمل على النفس في العبادة
وفيه: الفطر من صوم التطوع للحاجة والمصلحة
وفيه: مشروعية تزين المرأة لزوجها
وفيه: منقبة لسلمان الفارسي، حيث صدقه النبي صلى الله عليه وسلم