باب في القدر 11
سنن ابن ماجه
حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عطاء بن مسلم الخفاف، حدثنا الأعمش، عن مجاهد عن سراقة بن جعشم، قال: قلت: يا رسول الله، العمل فيما جف به القلم، وجرت به المقادير، أم في أمر مستقبل؟ قال: "بل فيما جف به القلم وجرت به المقادير، وكل ميسر لما خلق له" (1).
قَدَّر اللهُ سُبحانه وتَعالَى مَقاديرَ كلِّ شَيءٍ، وكَتَب على ابنِ آدَمَ حَظَّه في الدُّنيا والآخرةِ قبْلَ أنْ يَخلُقَه، وهي كِتابةُ عِلمٍ وإحاطةٍ بما سيَكونُ، وليْست كِتابةَ جَبرٍ وإكراهٍ، وقدْ أمَرَ سُبحانه الخلْقَ بأنْ يَعمَلوا وَفْقَ شرائعِه، ويَسَّر الأمورَ لهم، وخُيِّروا بيْنَ الإيمانِ باللهِ فيَسْعَدوا، أو الكفرِ والعِصيانِ فيَشْقُوا.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي جابرُ بنُ عبدِ الله رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ سُراقةَ بنَ مالكِ بنِ جُعشُمٍ رَضيَ اللهُ عنه جاءَ إِلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وطَلبَ مِنه أنْ يُبيِّنَ لَهم دِينَهم بَيانًا شافيًا، والمرادُ هنا ليْس بيانَ جَميعِ الدِّينِ، وإنَّما بَيانُ ما يَعتقِدونه ويَدِينون به في مَسألةِ القدَرِ، وهلِ الأعمالُ مَكتوبةٌ عندَ اللهِ ومُقدَّرةٌ مِن الأزلِ أمْ لا؟ كأَنَّهم خُلِقوا الآنَ غيرَ عالِمِين بهذه المسألةِ، وأوَّلُ أمرٍ أرادَ أنْ يُبيِّنَه له هو: هلِ العملُ الَّذي يَعمَلُه المرءُ اليومَ وما يَترتَّبُ عليه مِن الثَّوابِ والعقابِ، هوَ بتَقديرٍ سابقٍ منَ اللهِ عزَّ وجلَّ في الأَزلِ، فنَفَذَت به مَشيئتُه، ولا يُمكِنُ فيهِ التَّغيُّرُ والتَّبدُّلُ، أمْ هوَ شيءٌ لَم يُقدَّرْ في الأَزلِ، بلْ هي أفعالٌ صادرةٌ منَّا بقُدرتِنا ومَشيئتِنا، ويَجري عَلينا كُلُّ فِعلٍ في الوَقتِ الَّذي نَستقبِلُه ونَقصدُه، مِن غَيرِ أنْ يَجريَ عَليهِ التَّقديرُ، فيكون العقابُ مُرتَّبًا عليها بحَسَبِها؟ فأبطَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ القسمَ الثَّانيَ، فأَجابَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بقولِه: «لا، بلْ فيما جَفَّت به الأَقلامُ وجَرتْ بِه المقاديرُ»، أي: إنَّ العَملَ الَّذي يَعمَلُه المرءُ اليومَ هوَ بتَقديرٍ سابقٍ منَ اللهِ عزَّ وجلَّ في الأَزلِ مَكتوبٍ في اللَّوحِ المحفوظِ ونَفَذَت به أقدارُ اللهِ وأحكامُه، ولا يُمكِنُ فيهِ التَّغيُّرُ والتَّبدُّلُ، فسَألَ سُراقةُ رَضيَ اللهُ عنه: فَفِيمَ العملُ؟ وأيُّ فائدةٍ لعَملِنا إذا جَفَّت به الأقلامُ وجَرَت به المقاديرُ؛ لأنَّ قَدَرَ اللهِ لا يُبدَّلُ، وقَضاءَهُ لا يُغيَّرُ، سواءٌ عَمِلنا الأعمالَ الصَّالحةَ أمْ عَمِلْنا غيْرَها؟
وأخبَرَ زُهَيْرُ بنُ مُعاويةَ أحدُ رُواةِ الحديثِ أنَّ شَيْخَه أبا الزُّبيرِ محمَّدَ بنَ مُسلمٍ تَكلَّمَ بكَلامٍ لم يَفهَمْ مَعناه، فسَألَ عمَّا قال ولم يَسمَعْه، فأُخبِرَ أنَّه روى أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال في تَمامِ الحديثِ: «اعمَلوا» يعني: ما أُمرِتُمْ به، ولا تَتَّكِلوا على ما جَفَّت به الأقلامُ؛ «فَكُلٌّ مُيسَّرٌ»، أي: لا تَدَعوا العَمَلَ؛ فالجنَّةُ لا تَأتي إلَّا بِعملٍ، والنَّارُ لا تَأتي إلَّا بِعَملٍ؛ فَلا يَدخُلُ الجنَّةَ إلَّا مَن عَمِلَ بعَملِ أَهلِ الجنَّةِ، وَلا يَدخُلُ النَّارَ إلَّا مَن عَمِلَ بعَملِ أَهلِ النَّارِ، وكُلٌّ مُيسَّرٌ لِما خُلِقَ لَه، فمن كتب في أَهلُ السَّعادةِ فيُيسَّرون لعَملِ أَهلِ السَّعادةِ، ومن كتب في أَهلُ الشَّقاوةِ فيُيَسَّرون لعَملِ أَهلِ الشَّقاوةِ، فعَمَلُكم أيُّها النَّاسُ عَلامةٌ على ما خُلِقْتُم لأجْلِه، فأمَرَهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالتزامِ ما يَجِبُ على العبدِ مِن العُبوديَّةِ، وزَجَرَهم عن التَّصرُّفِ في الأمورِ الغيبيَّةِ.
وفي الحديثِ: ثُبوتُ قَدَرِ اللهِ السَّابقِ لِخَلقِه، وهوَ عِلمُه بالأَشياءِ قَبلَ كَونِها، وكِتابَتُه لَها قَبلْ بَرْئِها.