باب في سبق المقادير وقوله تعالى {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}
بطاقات دعوية
عن أبي الأسود الدئلي قال قال لي عمران بن حصين - رضي الله عنهما - أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر ما سبق أو فيما يستقبلون به مما قد (1) أتاهم به نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وثبتت الحجة عليهم فقلت بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم قال فقال أفلا يكون ظلما قال ففزعت من ذلك فزعا شديدا وقلت كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون فقال لي يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم فقال لا بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم وتصديق ذلك في كتاب الله {ونفس وما سواها (7) فألهمها فجورها وتقواها} ". (م 8/ 48 - 49)
قَدَّر اللهُ سُبحانه وتَعالَى مَقاديرَ كلِّ شَيءٍ، وكَتَب على ابنِ آدَمَ حَظَّه في الدُّنيا والآخرةِ قبْلَ أنْ يَخلُقَه، وهي كِتابةُ عِلمٍ وإحاطةٍ بما سيَكونُ، وليْست كِتابةَ جَبرٍ وإكراهٍ، وقدْ أمَرَ سُبحانه الخلْقَ بأنْ يَعمَلوا وَفْقَ شرائعِه، ويَسَّر الأمورَ لهم، وخُيِّروا بيْنَ الإيمانِ باللهِ فيَسْعَدوا، أو الكفرِ والعِصيانِ فيَشْقُوا
وفي هذا الحديثِ يَرْوي التَّابعيُّ أبو الأسودِ الدِّيليُّ أنَّ الصَّحابيَّ عِمرانَ بنَ الحُصينِ رَضيَ اللهُ عنه سَأله يومًا وقال له: «أَرأيتَ ما يَعمَلُ النَّاسُ اليومَ ويَكدَحون فيه؟» والكَدْحُ هو: العملُ الشَّاقُّ والكسبُ المتعِبُ، والمعنى: هلْ عَلِمتَ حَقيقةَ ما يَسعَوْن في تَحصيلِه مِن الأعمالِ بجُهدٍ وكَدٍّ، هلْ هوَ بتَقديرٍ سابقٍ منَ اللهِ عزَّ وجلَّ في الأَزلِ فنَفَذَت به مَشيئتُه ولا يُمكِنُ فيهِ التَّغيُّرُ والتَّبدُّلُ؟ أمْ هوَ شيءٌ لَم يُقدَّرْ في الأَزلِ، بلْ هي أفعالٌ صادرةٌ بقُدرةِ النَّاسِ ومَشيئتِهم ويَجري عَليهم كُلُّ فِعلٍ في الوَقتِ الَّذي يَستقبِلُون، وثَبَتتِ الحُجَّةُ عَليهم
فأَجابَ أَبو الأَسودِ: «بل شَيءٌ قُضِيَ عليهِم ومَضى عَليهم» أي: قُدِّرَ عَليهِم ونَفَذَ في حَقِّهم؛ فإنَّ العَملَ الَّذي يَعمَلُه المرءُ اليومَ هوَ بتَقديرٍ سابقٍ منَ اللهِ عزَّ وجلَّ في الأَزلِ مَكتوبٍ في اللَّوحِ المحفوظِ، ونَفَذَت به أقدارُ اللهِ وأحكامُه، ولا يُمكِنُ فيهِ التَّغيُّرُ والتَّبدُّلُ
فقالَ له عِمرانُ: أَفلا يَكونُ ظُلمًا؟ أي: بأنْ يُؤاخَذَ المرءُ ويُعاقَبَ عَلى عَملٍ قُدِّرَ لَه في الأَزلِ؛ فهم مَجْبورون عليه، فكيْف يُعاقَبون عليه إذا كان ذلك مِن المعاصي، فعِقابُهم حينئذٍ على ذلك ظُلمٌ؟ ففَزِعَ أبو الأَسودِ مِن ذلكَ فَزعًا شَديدًا؛ لأنَّ القولَ بالجَبرِ لا يقولُ به إلَّا أصحابُ الأهواءِ لِيَستبِيحوا لأنفُسِهم المعاصيَ والشُّرورَ، وأجابَهُ أبو الأَسودِ: «كُلُّ شَيءٍ خَلْقُ اللهِ ومِلكُ يَدِه» أي: مَملوكٌ في قَبضتِه سُبحانه، فله التَّصرُّفُ في مِلكِه بما شاء مِن العقابِ والثَّوابِ؛ فَلا يُسأَلُ سُبحانه عَمَّا يَفعَلُ في خَلقِه، وهُم يُسأَلون عمَّا يَعمَلون؛ وهذا جَوابٌ حَسنٌ مِن أبي الأسودِ، ومُقْتضى جَوابِه: أنَّ الظُّلمَ لا يُتصوَّرُ مِن اللهِ تَعالَى؛ فإنَّ الكلَّ خَلقُه ومِلكُه، لا حَجْرَ عليه ولا حُكمَ، فلا يُتصوَّرُ في حَقِّه الظُّلمُ؛ لأنَّ الظُّلمَ التَّصرُّفُ في مِلك الغيرِ، وهُم مِلكُه
فلمَّا سَمِع عِمرانُ بنُ حُصَينٍ رَضيَ اللهُ عنه هذا الجوابَ مِن أبي الأسودِ، تَحقَّقَ أنَّه قدْ وُفِّقَ للحقِّ وأصابَ عَينَ الصَّوابِ، فاستَحسَنَ ذلك منه وأخبَرَه أنَّه إنَّما امتَحَنَه بذلكَ السُّؤالِ ليَختبِرَ عَقْلَه، ولِيَستخرِجَ عِلمَه
ثمَّ أخبَرَ عِمرانُ رَضيَ اللهُ عنه بحُجَّتِه على تَصويبِ جَوابِ أبي الأسودِ، فقال: «إنَّ رَجُلين مِن مُزينَةَ» وهيَ اسمُ قَبيلةٍ عربيَّةٍ، سَأَلا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمِثلِ السُّؤالِ الَّذي سَأله لأبي الأسودِ، فأَجابَهما صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لا» أي: ليْس عَملُهم جَديدًا يَستأنِفون به ويُنشِؤونه، بلْ هو شَيءٌ «قُضِيَ عَليهم»، أي: قَدَّرَه اللهُ عَليهم، وتَصديقُ ذلكَ في كِتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8]، أي: كُلُّ نَفسٍ خَلَقَها اللهُ عزَّ وجلَّ سَوِيَّةً مُستقيمةً عَلى الفِطرةِ القَويمةِ، فبَيَّن اللهُ عزَّ وجلَّ لَها طَريقَ الخيرِ والتَّقوى؛ لتَعمَلَ به، وطَريقَ الشَّرِّ لتَجتنِبَها ولا تَعمَلَ بها، وهَداها إلى ما قَدَّر لَها في الأَزلِ
وفي الحديثِ: ثُبوتُ قَدَرِ اللهِ السَّابقِ لِخَلْقِه، وهوَ عِلمُه بالأَشياءِ قبلَ كَونِها، وكِتابتُه لَها قَبلَ بَرْئِها
وفيه: اختبارُ العالِمِ عُقولَ أصحابِه بمُشكلاتِ المسائلِ، والثَّناءُ عليهم إذا أصابُوا، وبيانُ العُذرِ عن ذلك