باب في قوله تعالى {إذا جاءك المنافقون} إلى قوله {حتى ينفضوا}
بطاقات دعوية
عن زيد بن أرقم قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي لأصحابه لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله قال زهير وهي في قراءة عبد الله وقال (1) لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل فقال كذب زيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فوقع في نفسي مما قالوه شدة حتى أنزل الله عز وجل تصديقي {إذا جاءك المنافقون} قال ثم دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليستغفر لهم قال فلووا رءوسهم وقوله {كأنهم خشب مسندة} وقال كانوا رجالا أجمل شيء (2). (م 8/ 119 - 120)
حَفَلتِ السِّيرةُ النَّبويَّةُ بالأحداثِ الكاشِفَةِ لحَقيقةِ إيمانِ كَثيرٍ مِنَ النَّاسِ، وميَّزتْ أهلَ النِّفاقِ، وأظهَرتْ ما أخْفَوه في قُلوبِهم؛ مِن غِلٍّ وحِقدٍ للإسلامِ، كما بيَّنَتْ جَوْهَرَ إيمانِ المؤمنينَ حَقًّا، وما وَقَرَ في قُلوبِهم مِن حُبِّ اللهِ ونُصْحٍ لِرسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ الصَّحابيُّ زَيدُ بنُ أرقَمَ رَضِيَ اللهُ عنه أنهم خَرَجوا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفَرٍ أصابَهُم فيه شِدَّةٌ مِن قِلَّةِ الزَّادِ وغيرِه، والمرادُ به غَزوةُ بني المُصطَلِقِ، وتُسَمَّى المُرَيسِيعَ، فأمر رأسُ المنافِقين عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلولَ أصحابَه ألَّا يُنفِقوا على مَن عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الصَّحابةِ الكِرامِ حتَّى يتفَرَّقوا مِن حَولِه ويَتْركوه، وقال: «لَئِن رَجَعْنا إلى المدينةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ»، يعني: أنَّ العزيزَ من الطَّرفَينِ سيُخرِجُ الذَّليلَ مِن المدينةِ ويَطرُدُه منها، ويُريدُ بالأعزِّ نفْسَه، وبالذَّليلِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
فذهَبَ زَيْدُ بنُ أَرْقَمَ رضِيَ اللهُ عنه إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأَخْبَرَه بالذي قاله هذا المنافِقُ، فأَرْسَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى عبدِ الله بنِ أُبَيٍّ، فسَأَله عن ذلك، فحلف وأكَّد الأيمانَ وبَذَل وُسْعَه وبَالَغ في القَسَمِ أنَّه ما قال ذلك. فقالت الأنصارُ: كَذَب زَيْدٌ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ وذلك بأن أخبر عن الأمرِ بخِلافِ ما هو عليه
فحَزِنَ زَيدٌ رَضِيَ اللهُ عنه من ذلك ووقع في كَربٍ شديدٍ، حتَّى أنْزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ تَصديقَ زيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه فيما قال، وتكذيبَ عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ ابنِ سَلُولَ في سورةِ المنافِقين، فاستدعى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المنافِقين الذين يترأسُهم عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ لِيَسْتَغْفِرَ لهم مِمَّا قالوا، فلَوَّوْا رُؤُوسَهم، أي: أمالوها إعراضًا واستكبارًا عن استغفارِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهم
وقولُه تعالَى: {خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4]، قال زَيْدٌ رضِيَ اللهُ عنه: كانوا رِجَالًا أجْمَلَ شيءٍ، أي: في الصُّورةِ الظَّاهِرةِ، لكنْ قلوبُهم خَرِبَةٌ، والعِياذُ باللهِ
وفي الحَديثِ: بَيانُ صِفَةِ المُنافقينَ من الكذِبِ في الحَديثِ، وإظهارِ الإيمانِ وإضمارِ الكُفْرِ
وفيه: مَنقَبةٌ وفضْلٌ لزَيدِ بنِ أرقَمَ رضِيَ اللهُ عنه