باب قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود
بطاقات دعوية
فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة، وهو أخو كعب من الرضاعة فدعاهم إلى الحصن، فنزل إليهم؛ فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة فقال: إنما هو محمد بن مسلمة وأخي أبو نائلة قالت: أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب قال: ويدخل محمد بن مسلمة معه رجلين
فقال: إذا ما جاء فإني قائل بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه وقال مرة: ثم أشمكم فنزل إليهم متوشحا، وهو ينفح منه ريح الطيب فقال: ما رأيت كاليوم ريحا، أي أطيب قال: عندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب؛ فقال: أتأذن لي أن أشم رأسك قال: نعم فشمه ثم أشم أصحابه ثم قال: أتأذن لي قال: نعم فلما استمكن منه، قال: دونكم فقتلوه، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه
أذية النبي صلى الله عليه وسلم ليست كأذية غيره من البشر؛ فله حقوق علينا أكثر من غيره، فالطعن فيه طعن في الوحي، وفي الله سبحانه وتعالى؛ ولذا لم تجعل عقوبته كعقوبة من سب أو آذى سائر المؤمنين
وفي هذا الحديث ندب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ودعاهم إلى قتل كعب بن الأشرف، وهو من طيء وأمه من يهود بني النضير فاعتنق اليهودية وسكن مع أخواله، وكانوا يسكنون المدينة، وكان شاعرا يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤلب عليه المشركين، فقال صلى الله عليه وسلم: «من لكعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله؟» أي: من يقتله منكم، ويفوز بأجر ذلك وثوابه؛ فإنه استحق ذلك؛ لشدة إيذائه لله ورسوله
فتصدى لذلك محمد بن مسلمة رضي الله عنه، غير أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن له في أن يقول لكعب كلاما ظاهره العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم احتيالا عليه، فأذن له صلى الله عليه وسلم بذلك، فجاء محمد بن مسلمة رضي الله عنه إلى كعب فقال: إن هذا الرجل -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- قد فرض علينا هذه الصدقة التي طلبها منا، وسماها زكاة، وإنه قد «عنانا»، أي: أثقل علينا، وإني جئتك لأشتري منك الطعام بالدين، فقال كعب بن الأشرف: «وأيضا والله لتملنه»، أي: والله لترين من محمد -صلى الله عليه وسلم- الشيء الكثير حتى تمله، وتكرهه، وتجزع منه، فقال محمد بن مسلمة رضي الله عنه: فإنا قد اتبعناه، فلا نحب أن نتركه حتى ننتظر ما يكون من شأنه، ونترقب ذلك، وطلب منه محمد بن مسلمة رضي الله عنه أن يسلفهم وسقا، أو وسقين -الشك من الراوي-، والوسق ستون صاعا، ويعادل الوسق (130 كجم) تقريبا
فقال كعب: «نعم، ارهنوني»، أي: إذا أردتم أن أسلفكم، فادفعوا لي رهنا، وعرض عليهم أن يرهنوه نساءهم، فاعتذروا له عن ذلك بأنه أجمل العرب، والنساء يملن إلى الصور الجميلة، وأي امرأة تمنع منك لجمالك؟! فعرض عليهم كعب أن يرهنوه أبناءهم، فاعتذروا بأن ذلك يسيء إلى سمعتهم، ويكون سبة، وعارا عليهم بين العرب فعرضوا عليه أن يرهنوه اللأمة، وهي السلاح وعدة الحرب، قال: نعم، وأرادوا بذلك ألا ينكر عليهم إذا جاؤوه بالسلاح، ولا يشك فيهم، فواعده محمد بن مسلمة رضي الله عنه أن يأتيه بالسلاح، ويأخذ الطعام
فجاءه ليلا إلى حصنه، ومعه الصحابي أبو نائلة سلكان بن سلامة رضي الله عنهما، وهو أخو كعب من الرضاعة، وصاحبه في الجاهلية؛ فدعاهم إلى الحصن، فنزل إليهم، فسألته امرأته عن خروجه في تلك الساعة المتأخرة من الليل، وقالت: أسمع صوتا كأنه يقطر من الدم، أي: صوت عدو يريد قتلك، فطمأن زوجته فقال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة، وأخي من الرضاعة أبو نائلة، ثم قال: إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب، فالرجل الكريم يجيب من دعاه بالليل، ولا يتأخر عنه، ولو كان في ذلك الخطر على حياته. فدخل عليه محمد بن مسلمة، وأدخل معه رجلين، كما ذكر عمرو بن دينار -أحد رواة الحديث-، والظاهر أنهما أبو نائلة، وعباد بن بشر رضي الله عنهما، وفي رواية غير عمرو بن دينار ذكر أنه دخل معه: أبو عبس عبد الرحمن بن جبر الأنصاري الأشهلي، والحارث بن أوس بن معاذ، وعباد بن بشر رضي الله عنهم
فقال محمد بن مسلمة لأصحابه: «إذا ما جاء كعب، فإني قائل بشعره فأشمه»، أي: آخذ به، أميله نحوي كأني أشمه، والعرب قد تطلق القول على غير الكلام، قال محمد بن مسلمة رضي الله عنه: فإذا رأيتموني أحكمت إمساكه من رأسه، فخذوه بأسيافكم، فاضربوه بها، وقوله: «وقال مرة: ثم أشمكم»، أي: قال عمرو بن دينار مرة: أمكنكم من شم رأسه
فنزل كعب بن الأشرف إليهم من حصنه وكان متوشحا بثوبه، وصفة ذلك أن يتغطى بثوبه، ثم يخرج طرفه الذي ألقاه على عاتقه الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقد طرفيهما على صدره، وكان يفوح منه ريح الطيب، فلما رآه محمد بن مسلمة قال: «ما رأيت كاليوم ريحا»، أي: ما شممت أطيب من هذه الرائحة، ولا أعطر منها، قال كعب مفتخرا: عندي أعطر نساء العرب، أي: أطيبهن عطرا، وأكمل العرب، وقيل: «أجمل العرب» بدل «أكمل»، وكان كعب حديث عهد بعرس، فقال محمد بن مسلمة: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم! فشمه محمد بن مسلمة رضي الله عنه، ثم جعل أصحابه رضي الله عنهم يشمون أيضا، ثم تركه وشغله بالحديث قليلا، ثم قال: أتأذن لي أن أشمك مرة أخرى؟ قال: نعم! فلما تمكن منه، قال: اضربوا عدو الله، فضربوه بأسيافهم حتى قتلوه، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بقتله
وفي الحديث: أن من آذى الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كان حقه أن يقتل، كما قتل كعب بن الأشرف
وفيه: مشروعية الكذب على الأعداء في الحرب
وفيه: فضيلة محمد بن مسلمة وأصحابه رضي الله عنه بقتلهم كعب بن الأشرف