باب ما جاء في ترك الصلاة على الشهيد
سنن الترمذى
حدثنا قتيبة قال: حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، أن جابر بن عبد الله أخبره، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في الثوب الواحد، ثم يقول: «أيهما أكثر أخذا للقرآن»، فإذا أشير له إلى أحدهما، قدمه في اللحد، وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة»، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا وفي الباب عن أنس بن مالك: «حديث جابر حديث حسن صحيح»، وقد روي هذا الحديث، عن الزهري، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من ذكره، عن جابر، «وقد اختلف أهل العلم في الصلاة على الشهيد»، فقال بعضهم: «لا يصلى على الشهيد، وهو قول أهل المدينة، وبه يقول الشافعي، وأحمد»، وقال بعضهم: يصلى على الشهيد، واحتجوا بحديث «النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على حمزة»، وهو قول الثوري، وأهل الكوفة، وبه يقول إسحاق
كانتْ غزوةُ أُحُدٍ -وأُحُدٌ جَبَلٌ مَشهورٌ مِن جِبالِ المدينةِ- في السَّنةِ الثالثةِ مِن الهِجرةِ، ووقعتْ فيها أحداثٌ عِظامٌ؛ فقدْ كانت ختبارًا عظيمًا مِن اللهِ تعالَى لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمؤمنِينَ.
وفي هذا الحَديثِ بيانُ بعضِ ما كان فيها وبيانُ بَعضِ أحكامِه، حيثُ يَروي جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا أرادَ أنْ يُكفِّنَ مَنِ استُشهِدَ في غزوةِ أُحُدٍ مِن أصحابِه رِضوانُ اللهِ عليهم، ولم يكنْ هناك مِنَ الثِّيابِ ما يَكفي لِتَكفينِ كلِّ واحدٍ منهم في ثَوبٍ ساتِرٍ لجَميعِ بدَنِه، فكان يَجمَعُ بيْنَ الرَّجُلَينِ في ثَوبٍ واحدٍ؛ وهذا لكَثرةِ القَتْلى وقلَّةِ ثيابِ التَّكفينِ، فيَقطَعُ الثَّوبَ ويُقسِّمُه عليهم، بعْدَ أنْ يَبْقَيَا في مَلابِسِهما الَّتي قُتِلا فيها، لا أنَّهما يُجَرَّدانِ ويَحصُلُ مُلامسةٌ لبَشَرتِهما.
أو يكونُ المرادُ أَنَّه يَجمعُ بيْنَهما في قَبرٍ واحدٍ، وقد ورَد عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في أكثَرَ مِن حَديثٍ أنَّ الشَّهيدَ يُكفَّنُ في ثِيابِه الَّتي قُتِل فيها، كما في روايةِ أحمدَ عن عبدِ الله بنِ ثَعْلَبةَ بنِ صُعَيْرٍ، أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال يومَ أُحُدٍ: «زَمِّلُوهم في ثِيابِهم»، وقيل في الجَمعِ بيْنَ الحديثَينِ: إنَّ مَن عَرَّاه العدوُّ أو كثُرَ طعْنُه فتقطَّعتْ ثِيابُه مثلًا وتعرَّى بعضُ جَسدِه يَلزَمُ تَكفينُه، ومَن بَقيَتْ ثِيابُه عليه فإنَّه يُدفَنُ بها دُونَ تَكفينٍ.
وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَسألُ عِن أكثرِهم قُرآنًا، فإذا أُشيرَ إلى أحدِهما قدَّمَه في اللَّحدِ، واللَّحدُّ شَقٌّ يُعمَلُ في جانِبِ القبرِ، فيَميلُ عَن وسَطِ القبرِ إلى جانِبه بِحيثُ يَسَعُ المَيتَ فَيُوضعُ فيه ويُطْبقُ عليه اللَّبِنُ، وأَمَرَ بدَفْنِهم في دِمائِهم ولم يُغَسَّلوا، ولم يُصَلَّ عليهم، وقال: «أنا شهيدٌ على هؤلاءِ يومَ القِيامةِ»؛ فهو شَفيعٌ لهؤلاءِ وشاهِدٌ بأنَّهم صَدَقوا ما عاهَدوا اللهَ عليه؛ مِن الإيمانِ والجِهادِ في سَبيلِه، وطاعتِه وطاعةِ رسولِه حتَّى ماتوا على ذلك.
وقدْ ورَدَ في أحاديثَ أُخرَى أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ صلَّى على جَميعِ شُهداءِ أُحدٍ كما في الصَّحيحَينِ عن عُقْبةَ بنِ عامرٍ رَضيَ اللهُ عنه: «أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خرَج يَومًا، فصَلَّى على أهلِ أُحُدٍ صَلاتَه على المَيتِ»، والجمْعُ بيْنَ هذه الأحاديثِ: أنَّ صَلاتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لبَيانِ أنَّ الصَّلاةَ عليهم جائِزةٌ.
وقيل: إنَّ تلك واقِعةُ عَينٍ تَختصُّ بشُهداءِ أُحُدٍ، وليستْ على العُمومِ، والمثبَتُ أنَّه لا يُصلَّى على الشَّهيدِ الذي قُتِلَ في المعركةِ لحَديثِ جابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما، وأيضًا فالصَّلاةُ على المَيِّتِ شَفاعةٌ له، ولا يُشفَعُ إلَّا للمُذنبِينَ، والشُّهداءُ قد غُفِرَتْ ذُنوبُهم، وصاروا إلى كَرامةِ اللهِ ورَحمتِه وجَنَّته أجمعينَ؛ فارتفعَتْ حالُهم عن أنْ يُصلَّى عليهم كما يُصلَّى على سائرِ موتَى المسلِمينَ.
وفي الحديثِ: فَضيلةٌ ظاهرةٌ لِقارئِ القُرآنِ، ويَلحَقُ به أهلُ الفِقهِ والزُّهدِ، وسائرُ وُجوهِ الفضْلِ.
وفيه: فَضلٌ ومَنْقَبةٌ لشُهداءِ أُحُدٍ.
وفيه: بيانُ ما كان عليه الصَّحابةُ الكِرامُ مِن ضِيقِ الحالِ، والصَّبرِ على ذلك رَغْبةً في نشرِ دَعوةِ الإسلامِ.