باب ما يقع به الطلاق
سنن ابن ماجه
حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، قال: سألت الزهري: أي أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - استعاذت منه؟ فقال: أخبرني عروةعن عائشة: أن ابنة الجون لما دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدنا منها قالت: أعوذ بالله منك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عذت بعظيم، الحقي بأهلك" (1).
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم برًّا رحيمًا، سمْحًا كريمًا، طَيِّبَ المعشَرِ، وقد عَلَّمنا بقَولِه وفِعْلِه ما من شأنِه أن يُديمَ الوُدَّ والمحبَّةَ بيْن جميعِ النَّاسِ، لا سيَّما بين الزَّوجِ ومن يختارُها زوجةً له.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ أبو أُسَيْدٍ مالِكُ بنُ رَبيعةَ السَّاعدِيُّ رضِيَ اللهُ عنه أنَّهُم خَرَجوا مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حَتَّى ساروا إلى «حائِطٍ» وهو بُستانٌ عليه جِدارٌ، يُقالُ لَهُ: «الشَّوْطُ»، حَتَّى انتَهَوْا إلى حائِطَينِ، فجَلَسوا بيْنَهما، فَقالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «اجلِسوا هاهُنا»، وَدَخَلَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى البُستانِ، وَقَد جِيءَ بامرأةٍ جَوْنِيَّةٍ -نسبةً إلى قبيلةٍ مِن قبائِلِ العَرَبِ- فَأُنزِلَتْ في بَيتٍ في نَخْلٍ في بَيْتِ أُمَيْمةَ بِنْتِ النُّعْمانِ بنِ شَراحيلَ -وهي المرأةُ الجَونيَّةُ المذكورةُ، والمعنى: أُنزِلَت في بيتِها-، وَمَعَها دايَتُها حاضِنةٌ لها، والدَّايَةُ هي المُرضِعُ، وقيل: هي القابِلةُ التي تتلقَّى المولودَ عند ولادتِه. وفي روايةٍ أخرى في صحيحِ البُخاريِّ أنَّها ذُكِرَت لرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليتزوَّجَها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأمَر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبا أُسَيدٍ مالِكَ بنَ رَبيعةَ السَّاعديَّ رَضِيَ اللهُ عنه أن يُرسِلَ إليها، فأرسَل إليها أبو أُسَيدٍ من يأتي بها، فجاءت هذه المرأةُ إلى أُجُمِ بني ساعدةَ، وهو من حُصونِ المدينةِ.
فلَمَّا دَخَلَ عليْها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالَ لَها: «هَبي نَفْسَكِ لي»، يعني: زوِّجيني نَفْسَك، وقد طلب منها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الزَّواجَ على هذه الصُّورةِ؛ تَطييبًا لِقَلْبِها، واستِمالةً لَها، وكانت خافِضةً رأسَها إلى الأرضِ تنظُرُ ناحِيَتَها، فلم ترَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولم تعرِفْه، فَقالَتْ -لِسُوءِ حَظِّها وَشَقائِها، وعَدَمِ مَعرِفَتِها بِجَلالَةِ قَدْرِهِ الرَّفيعِ-: «وهلْ تَهَبُ المَلِكةُ نَفْسَها لِلسُّوقةِ؟!» أي: الرَّعِيَّةِ. وقَولُها هذا من بَقِيَّةِ ما كان فيها مِنَ الجاهِليَّةِ، والسُّوقةُ عندهم: من ليس مَلِكًا، كائنًا من كان، فكأنها استبعدَت أن يتزوَّجَ الملكةَ من ليس بمَلِكٍ. ولم يؤاخِذْها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بكلامِها معذرةً لها؛ لقُربِ عَهْدِها بجاهلِيَّتِها، ولذلك لَمَّا ذُكِرَ لها أنَّ هذا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -كما في روايةٍ أخرى في صحيحِ البُخاريِّ- قالت: «كنتُ أنا أشقى مِن ذلك»، يعني: إنَّها لَحِقَها الشَّقاءُ لَمَّا فاتها التَّزوُّجُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
ثمَّ أهْوَى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيَدِهِ الشَّريفةِ، أي: أَمالَها ووضعَها عَلَيها لِتَسْكُنَ، فَقالَتْ: أَعوذُ بِاللَّهِ مِنكَ، فَقالَ: «قَد عُذْتِ بِمُعاذٍ»، أي: اعتصَمْتِ والتجَأْتِ بالَّذي يُستَعاذُ به، وصرَف نَظَرَه عنِ التَّزوُّجِ منها؛ لاستعاذتِها منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. ثُمَّ خَرَجَ على أصحابِه الذين ينتَظِرونَه، فَقالَ: «يا أبا أُسَيْدٍ، اكْسُها رَازِقِيَّتَيْنِ» الرَّازِقِيَّةُ: ثِيابٌ مِن كَتَّانٍ بِيضٌ طُوالٌ، «وَألْحِقْها بِأهلِها»، أي: رُدَّها إلَيهِم، وخَصَّ أبا أُسَيدٍ؛ لأنَّهُ هوَ الَّذي كانَ أحضَرَها.
وفي الحَديثِ: بَيانُ ما كانَ عَلَيهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن حُسنِ الخُلُقِ وَكَرَمِ الطِّباعِ.