باب مناقب جعفر بن أبي طالب الهاشمى رضي الله عنه 1
بطاقات دعوية
عن أبي هريرة رضي الله عنه: إن الناس كانوا يقولون: أكثر أبو هريرة، [فلقيت رجلا، فقلت: بما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البارحة في العتمة؟ فقال: لا أدري! فقلت: لم تشهدها؟ قال: بلى. قلت: لكن أنا أدري، قرأ سورة كذا وكذا 2/ 65]، وإني كنت ألزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشبع بطني؛ حتى (وفي رواية: حين 3/ 208) لا آكل الخمير، ولا ألبس الحبير، ولا يخدمني فلان، ولا فلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية هي معي؛ كي ينقلب بي فيطعمني، وكان أخير (وفي رواية: خير) الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة (36) التي ليس فيها شيء، فيشقها فنلعق ما فيها!
تَربَّى السَّلفُ الصالحُ على الحذَرِ والاحتياطِ في الرِّوايةِ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فإنَّ الرِّوايةَ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمْرٌ جَلَلٌ، ولها مَكانتُها العَظيمةُ.
وفي هذا الحديثِ يُبيِّنُ أبو هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه شِدَّةَ ضَبْطِه وإتقانِه، حيثُ شغَلَ فِكرَه بأفعالِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى ضبَطَها، بخِلافِ غيرِه؛ يقولُ أبو هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه: «يقولُ النَّاسُ: أكثَرَ أبو هُريرةَ!» يعني في الرِّوايةِ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ وذلك على سَبيلِ اللَّومِ والإنكارِ، فاستدَلَّ أبو هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه على صِحَّةِ ما يَفعلُ بأنَّه حَفِظَ ما لم يَحفَظْه غيرُه، وحَكى قصَّةً حدَثتْ له مع أحدِ الصَّحابةِ؛ فأخبَرَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لَقِيَ رجُلًا -ولم يَذكُر اسمَه- فسَأَلَه: بِمَ قرَأَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمسِ في صَلاةِ العِشاءِ؟ فقال: لا أدْري ما قرَأَ، فقال لهُ: ألمْ تُصَلِّها مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فقال الرَّجلُ: بَلى شَهِدتُها وصَلَّيْتُها، ولكنْ كأنَّه اشتَغَل بغيرِ أمْرِ الصَّلاةِ حتى نَسِيَ السُّورةَ التي قُرِئَتْ، فقال أبو هُرَيرةَ: «قلتُ: لكنْ أنا أَدْرِي؛ قرَأَ سُورةَ كذا وكذا»، وأخبَرَه بما قرَأَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الصَّلاةِ، ومُرادُ أبي هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه: أنْ يُبَيِّنَ للنَّاسِ امتيازَه عن غيرِه بضَبْطِ أُمورِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، واعتنائِه بها، وحِفظِه لها، وإذا كان كذلك، لم يُستبعَدْ أنْ يكونَ قد حَفِظَ ما لم يَحفَظْهُ غيرُه. وقد بيَّنَ أبو هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه في رِوايةٍ للبُخاريِّ أنَّ سَببَ إكثارِه مِن الرِّوايةِ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -إلى جانبِ طُولِ مُلازَمتِه لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وحِرصِه على حِفظِ حَديثِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- هو خَوفُه مِن كِتمانِ العِلمِ، وقد تَوعَّدَ اللهُ تعالَى مَن يَكتُمُه بأشدِّ الوعيدِ في قولِه تعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159، 160]. وأيضًا مِمَّا يُبيِّنُ سَببَ حِفظِه وعدَمِ نِسيانِه لحَديثِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما في صَحيحِ البخاريِّ عَن أبِي هُرَيْرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قالَ: «قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّي أَسْمَعُ مِنكَ حَديثًا كَثيرًا أَنْسَاهُ؟ قالَ: ابْسُطْ رِداءَكَ فبَسَطْتُه، قالَ: فغَرَفَ بيَدَيْهِ، ثُمَّ قالَ: ضُمَّه! فَضَمَمْتُه، فمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَه».
وفي الحديثِ: إتقانُ أبي هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه، وشِدَّةُ ضَبطِه للحديثِ.
وفيه: مَشروعيَّةُ الإكثارِ مِن الرِّوايةِ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لمَن كان ضابطًا لِما يُحدِّثُ به.