باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة 4
بطاقات دعوية
عن عروة بن الزبير (71) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقي الزبير في ركب من المسلمين؛ كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم؛ أوفى (*) رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مبيضين، يزول بهم السراب (72)، فلم يملك اليهودى أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب! هذا جدكم الذي تنتظرون. فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين، حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف (73)، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحيى أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك.
فلبث رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ركب راحلته، فسار يمشي معه الناس، حتى بركت عند مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وهو يصلي فيه يوميذ رجال من المسلمين، وكان مربدا (74) للتمر لسهيل وسهل: غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بركت به راحلتة:
"هذا إن شاء الله المنزل"، ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغلامين، فساومهما بالمربد؛ ليتخذه مسجدا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله! فأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقبله منهما هبة؛ حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا، وطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينقل معهم اللبن في بنيانه، ويقول:
"هذا الحمال (75) لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا! وأطهر"
ويقول:
"اللهم! إن الأجر أجر الآخره ... فارحم الأنصار والمهاجره"
فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي.
قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - تمثل ببيت شعر تام غير هذا البيت.
كانتِ الهِجْرةُ إلى المَدينةِ النَّبويَّةِ بِدايةَ فَتحٍ ونَصرٍ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصْحابِه، فانطَلَقَت مِن المَدينةِ دَولةُ الحقِّ الَّتي بدَّدَ اللهُ بها ظُلُماتِ الشِّركِ والضَّلالِ.
وفي هذا الحَديثِ يَحْكي التَّابِعيُّ عُرْوةُ بنُ الزُّبَيرِ أنَّ رَسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو في طَريقِ الهِجْرةِ، لَقيَ الزُّبَيرَ بنَ العوَّامِ رَضيَ اللهُ عنه –وهو أحدُ العَشَرةِ المُبشَّرينَ بالجنَّةِ، وزَوجُ أسْماءَ بنتِ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنهما- في رَكبٍ مِنَ المُسلِمينَ كانوا تِجَارًا -جمْعُ تاجرٍ- قافِلينَ، أي: عائدينَ مِن أرضِ الشَّامِ، وهي الآنَ تَشمَلُ: سُوريَّةَ، والأُردُنَّ، وفِلَسطينَ، ولُبنانَ، فكَسا الزُّبَيرُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه ثِيابًا بِيضًا.
وقدْ سَمِع المُسلِمونَ الذين كانوا بالمَدينةِ بخُروجِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُهاجِرًا مِن مكَّةَ إلى المَدينةِ، فكانوا يَخرُجونَ كلَّ صَباحٍ إلى حَرَّةِ قُباءٍ، يَنتَظِرونَ قُدومَه، حتَّى يرُدَّهم حَرُّ الظَّهيرةِ، أي: إلى أنْ يأْتيَ وقْتُ الظُّهرِ، فيَعودونَ إلى ديارِهم لشِدَّةِ حَرِّ هذا الوَقتِ، والحَرَّةُ هي أرضٌ مَلْسةٌ فيها حِجارةٌ سَوْداءُ، والمَدينةُ -زادَها اللهُ تعالَى شَرفًا- بيْنَ لابَتَينِ في جانِبَيِ الشَّرقِ والغَربِ، والمَقصودُ هنا الحَرَّةُ الشَّرقيَّةُ الآنَ، وبها قُباءٌ وحِصنُ واقِمٍ.
ويُخبِرُ عُرْوةُ بنُ الزُّبَيرِ أنَّهم عادوا يومًا مِنَ الأيَّامِ الَّتي كانوا يَنتَظِرونَ فيها رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى بُيوتِهم بعْدَما طال انْتِظارُهم، فلمَّا وَصَلوا إلى مَنازلِهم، صعِدَ رَجلٌ مِن يَهودَ على أُطُمٍ مِن آطامِهم، أي: على حِصنٍ من حُصونِهم، «فبَصُرَ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصْحابِه مُبَيَّضينَ»، أي: فرَأى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصْحابَه وعليهمُ الثِّيابُ البَيضاءُ، «يَزولُ بهمُ السَّرابُ»، أي: يُغَطُّونَ السَّرابَ، وهو المَرْئيُّ في شدَّةِ الحَرِّ في الصَّحْراءِ كأنَّه ماءٌ، والمَعنى: يَزولُ السَّرابُ عنِ النَّظرِ بسبَبِ مَشْيِهم فيه، أو يَظهَرونَ فيه تارةً، ويَختَفونَ أُخْرى. فلمْ يَستَطِعِ اليَهوديُّ أنْ يَتَمالَكَ نفْسَه، ولم يَسَعْه إلَّا أنْ يُناديَ بأعْلى صَوتِه: يا مَعشَرَ العرَبِ -يَعني: مِنَ الأوْسِ والخَزرَجِ- هذا جَدُّكمُ الَّذي تَنتَظِرونَ، يَعني: هذا حظُّكم وصاحبُ دَولتِكمُ الَّذي تَنتَظِرونَ السَّعادةَ بمَجيئِه قدْ أقبَلَ، فتَقلَّدَ المُسلِمونَ أسلِحَتَهم لاستِقْبالِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وحِراسَتِه مِن اليَهودِ، فاستَقْبَلوه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فوقَ الحَرَّةِ المُتَّصِلةِ بقُباءٍ، فاتَّجَهَ بهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في سَيْرِه جِهةَ اليَمينِ إلى غَربِ قُباءٍ حتَّى نزَل في بَني عَمرِو بنِ عَوفِ بنِ مالِكٍ الأَوْسيِّ، وذلك يومَ الاثنَينِ مِن شَهرِ رَبيعٍ الأوَّلِ، عندَ اشْتِدادِ الضُّحى قبْلَ الزَّوالِ، فوقَفَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه يُسلِّمُ على المُستَقبِلينَ لهم منَ الأنْصارِ، وجلَس رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صامِتًا لا يَتكلَّمُ، فشَرَعَ مَن جاء مِن الأنْصارِ يُحَيِّي أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه بالسَّلامِ، يظُنُّ أنَّه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حتَّى أصابَتِ الشَّمسُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فجاء أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى وقَفَ خَلْفَه، وظلَّلَ عليه مِن أشعَّةِ الشَّمسِ برِدائِه، فلمَّا ظلَّلَ عليه الصِّدِّيقُ رَضيَ اللهُ عنه عرَف النَّاسُ عندَ ذلك أنَّه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأقامَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في بَني عَمرِو بنِ عَوفٍ نَزيلًا على كُلْثومِ بنِ الهِدْمِ رَضيَ اللهُ عنه، بِضعَ عَشْرةَ لَيلةً، والبِضْعُ: مِن ثَلاثةِ إلى عَشرةٍ، وأُسِّسَ المَسجِدُ الَّذي أُسِّسَ على التَّقْوى، وهو مَسجِدُ قُباءٍ، أوَّلُ مَسجِدٍ بَناه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالمَدينةِ، وصلَّى فيه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أيَّامَ مُقامِه بقُباءٍ، ثمَّ ركِبَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ راحِلَتَه، فَسار ومَشى معَه النَّاسُ حتَّى برَكَتْ ناقَتُه عندَ مكانِ مَسجِدِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالمَدينةِ، وكان يُصلِّي فيه رِجالٌ مِن المسلمينَ في ذلك اليومِ، «وكان مِرْبَدًا للتَّمرِ»، أي: مَوضِعًا يُجفَّفُ فيه التَّمرُ، «لسَهلٍ وسُهَيلٍ؛ غُلامَينِ يَتيمَينِ في حَجْرِ أسعَدَ بنِ زُرارةَ»، أي: تحتَ وِصايَة أسْعَدَ رَضيَ اللهُ عنه، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حينَ برَكَتْ به راحِلتُه: «هذا -إنْ شاء اللهُ- المَنزِلُ»، أي: هذا هو المَوضِعُ والمَكانُ الَّذي نَنزِلُ فيه إنْ شاء اللهُ تعالَى؛ لأنَّ اللهَ تعالَى اخْتارَه لنُزولِنا، ثمَّ دَعا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الغُلامَينِ، فطَلَبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ منهما شِراءَ المِرْبَدِ؛ ليَبْنيَ على تِلك الأرضِ مَسجِدَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فعرَضَ الغُلامانِ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَهَباهُ له دونَ ثَمنٍ، فرفَض صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يقبَلَه منهما بدونِ ثَمنٍ، فاشْتَراه منهما، وبَنى في مَكانِه مَسجِدَه الشَّريفَ.
ويَحْكي عُرْوةُ بنُ الزُّبيرِ جانبًا مِن مُعاوَنَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصْحابَه في بِناءِ المَسجِدِ، فيُخبِرُ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شَرَع في بناءِ المَسجِدِ، وشارَكَ أصْحابَه بيَدِه في بنائِه، فصار يَنقُلُ معَهمُ اللَّبِنَ، وهو ما يُصنَعُ مِن الطِّينِ اللَّيِّنِ، ويُجفَّفُ بالشَّمسِ، ثمَّ يُبْنى به مِثلَ الأحْجارِ، ويُنشِدُ أثْناءَ ذلك قولَ الشَّاعرِ:
هذا الحِمالُ لا حِمالَ خَيْبَرْ *** هذا أَبَرُّ رَبَّنَا وأَطْهَرْ
أي: إنَّ ما يَحمِلُه المُسلِمونَ في بِناءِ المَسجِدِ أعظَمُ وأجَلُّ مِن أحْمالِ خَيْبرَ وتُمورِها كلِّها؛ لِما يُنالُ به مِن نَعيمِ الآخِرةِ الَّذي لا يَحولُ ولا يَزولُ.
ويقول:
اللَّهمَّ إنَّ الأجرَ أجرُ الآخِرَهْ *** فارحَمِ الأنْصارَ والمُهاجِرَهْ
أي: إنَّ الأجرَ الحَقيقيَّ هو الأجْرُ الأُخْرَويُّ، ثمَّ دَعا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للمُهاجِرينَ والأنْصارِ بالرَّحمةِ والرِّضْوانِ.
ولا يَتعارَضُ إنْشادُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للشِّعرِ مع ما ورَد عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن النَّهيِ عنِ الشِّعرِ، كما في الصَّحيحَينِ مِن حَديثِ أبي هُرَيْرةَ رَضيَ اللهُ عنه: «لَأنْ يَمتَلئَ جَوفُ رَجلٍ قَيحًا يَرِيهِ خَيرٌ مِن أنْ يَمْتَلئَ شِعرًا»؛ فهذا الحَديثُ وأمْثالُه لا يُرادُ به كلُّ الشِّعرِ، وإنَّما يُرادُ به الشِّعرُ الَّذي فيه الباطلُ والكذِبُ، أوِ السَّبُّ، أوِ المُفاخَرةُ، كما هو غالِبُ شِعرِ الجاهِليِّينَ.
وفي الحَديثِ: فَضْلُ الأنْصارِ، وحُبُّهم لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: جانبٌ مِن عَظَمةِ أخْلاقِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في مُشارَكَتِه لأصْحابِه في العَملِ.
وفيه: قِيمةُ المَسجِدِ وأهمِّيَّتُه في الإسْلامِ.
وفيه: أنَّ الحَسنَ مِن الشِّعرِ مَحمودٌ ومَقبولٌ شَرعًا.