باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة 8
بطاقات دعوية
عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قال: قال لي عبد الله بن عمر: هل تدرى ما قال أبى لأبيك؟ قال قلت: لا. قال: فإن أبى قال لأبيك: يا أبا موسى، هل يسرك إسلامنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهجرتنا معه، وجهادنا معه، وعملنا كله معه، برد لنا (81)، وأن كل عمل عملناه بعده نجونا منه كفافا؛ رأسا برأس؟ فقال أبي: لا والله؛ قد جاهدنا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصلينا، وصمنا، وعملنا خيرا كثيرا، وأسلم على أيدينا بشر كثير، وإنا لنرجو ذلك. فقال أبي: لكنى أنا -والذى نفس عمر بيده- لوددت أن ذلك برد لنا، وأن كل شىء عملناه بعد نجونا منه كفافا؛ رأسا برأس.
فقلت: إن أباك -والله- خير من أبي.
على المؤمِنِ أنْ يُحسِنَ الظَّنَّ باللهِ تعالَى، ولا يَأمَنَ مَكْرَه؛ بلْ يَسْعى في الجَمعِ بيْن الاثنَينِ حتَّى يَلْقى اللهَ تعالَى، وألَّا يَغُرَّه عمَلُه، بلْ يَنبَغي الخَوفُ مِن عِقابِ اللهِ مع رَجاءِ ثَوابِه وعَفْوِه وفَضلِه.
وفي هذا الحَديثِ يَحْكي أبو بُرْدةَ عامرُ بنُ الصَّحابيِّ أبي مُوسى الأشْعَريِّ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهم قال له: هلْ تَدْري ما قال أبي عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه لأبيكَ أبي مُوسى رَضيَ اللهُ عنه؟ فأجابَه: لا أدْري، فأخبَرَه ابنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما: إنَّ أبي قال لأبيكَ: يا أبا مُوسى، هل يسُرُّكَ إسْلامُنا مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهِجرَتُنا معه، وجِهادُنا معه، وعمَلُنا كلُّه معه بَرَدَ لنا -يَعني: ثَبَت وسَلِم لنا- وأنَّ كلَّ عَملٍ عَمِلْناه بعْدَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَجَوْنا منه كَفافًا رَأسًا برَأسٍ، يَعني: مُتَساوينَ في الأجْرِ، لا يكونُ لنا، ولا علينا، فلا يُوجِبُ ثَوابًا ولا عِقابًا؟ وقدْ قاله عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه هَضْمًا لنفْسِه، أو لمَا رَأى أنَّ الإنْسانَ لا يَخْلو عن تَقْصيرٍ في كلِّ خَيرٍ يَعمَلُه.
فأجابَه أبو مُوسى رَضيَ اللهُ عنه: لا واللهِ -لا يوقِعُني مثلُ هذا في السُّرورِ، ولا يَجلِبُ عَلَيَّ فرَحًا- وبيَّنَ السَّببَ في ذلك؛ فقال: قدْ جاهَدْنا بعْدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وصلَّيْنا، وصُمْنا، وعَمِلْنا خَيرًا كَثيرًا، وأسلَمَ على أيْدينا بشَرٌ كَثيرٌ، وإنَّا لنَرْجو ذلك، أي: ثَوابَ ما ذكَر زِيادةً على ما سَبَق لهم مِن الإسْلامِ، والهِجرةِ، وسائرِ الأعْمالِ.
فرَدَّ عليه عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه: «لكِنِّي أنا والَّذي نفْسُ عُمَرَ بيَدِه»، يُقسِمُ باللهِ الَّذي نفْسُ عمَرَ وغيرِه مِن المخلوقاتِ بيَدِه؛ مِلكٌ له، وطَوعُ أمْرِه، يَفعَلُ فيها ما يَشاءُ، وهو قسَمٌ كَثيرًا ما كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُقسِمُ به، ثمَّ أعادَ عليه مَقولَتَه مُتَمنِّيًا وراجيًا أنْ يكونَ عَمَلُه بعْدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يَترتَّبُ عليه ثَوابٌ أو عِقابٌ، وحَسَناتُه تَذهَبُ بسَيِّئاتِه، وهذا مِن شدَّةِ الخَشْيةِ والخَوفِ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ، والَّذي كان جَليًّا وعَظيمًا عندَ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه؛ وإلَّا فإنَّ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه كان مِن الصَّحابةِ الَّذين مات عنهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو عنهم راضٍ.
فقال أبو بُرْدةَ لابنِ عُمَرَ: إنَّ أباكَ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه -واللهِ- خَيرٌ من أبي أبي مُوسى رَضيَ اللهُ عنه؛ وذلك لأنَّ مَقامَ الخَوفِ أعظَمُ وأسلَمُ للعَبدِ مِن مَقامِ الرَّجاءِ.
وفي الحَديثِ: شدَّةُ خَوفِ الفاروقِ عُمَرَ منَ اللهِ عزَّ وجلَّ.
وفيه: فَضيلةُ الصَّحابِيَينِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ وأبي موسى الأشْعَريِّ رَضيَ اللهُ عنهما.
وفيه: بَرَكةُ العُمرِ في الطَّاعاتِ، وعمَلِ الصَّالحاتِ، خاصَّةً في الصَّلاةِ والصِّيامِ.
وفيه: فَضلُ السَّعيِ في إسْلامِ غيرِ المُسلِمينَ.