باب وفد بني حنيفة، وحديث ثمامة بن أثال 3
بطاقات دعوية
قال ابن عباس: فسألت عن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنك أرى الذي أريت فيه ما رأيت"؟ فأخبرنى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
«بينما أنا نائم؛ رأيت فى يدى سوارين (وفي طريق: أتيت بخزائن الأرض، فوضع في كفي سواران 5/ 119) من ذهب، فـ[كبرا علي , و 8/ 82] أهمنى شأنهما، (وفي طريق أخرى: ففظعتهما وكرهتهما 8/ 81)، فأوحى إلى فى المنام: أن انفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان بعدى، [فكان 4/ 182] أحدهما العنسى، والآخر مسيلمة [الكذاب صاحب اليمامة]، (وفي طريق: فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما: صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة"، [فقال عبيد الله بن عبد الله: أحدهما العنسي الذي قتله فيروز باليمن، والآخر مسيلمة]).
في كلِّ زَمانٍ يَظهَرُ الكذَّابونَ الَّذين يَدَّعونَ النُّبوَّةَ وأنَّ الوَحيَ يَنزِلُ عليهم مِن اللهِ، وهو سُبحانَه وتعالَى يُظهِرُ كَذِبَ هؤلاء الدَّجَّالينَ ويَدْحَرُهم، ويَحفَظُ دِينَه الإسْلامَ، ويَحفَظُ مَكانةَ نَبيِّه مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي هذا الحَديثِ يَقولُ عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما: «قَدِمَ مُسَيْلِمةُ الكذَّابُ على عَهْدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ» مِن اليَمامةِ إلى المَدينةِ، وذلك في زمَنِ الوُفودِ سَنةَ تِسْعٍ مِن الهِجْرةِ، فجَعَل مُسَيْلِمةُ يَقولُ: «إنْ جعَلَ لي مُحمَّدٌ الأمْرَ»، أيِ: الحُكمَ والنُّبوَّةَ، «مِن بَعدِه تَبِعتُه»، أي: إنَّه اشترَطَ في إسْلامِه واتِّباعِه لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَحكُمَ بعدَه، وكان قدْ قَدِمَ معَه إلى المَدينةِ كَثيرٌ ممَّن يَتْبَعُه، فلمَّا عَلِمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بقُدومِه، وعَلِمَ بكَذِبِه وافْتِرائِه، «أقبَلَ إليه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومعَه ثابِتُ بنُ قَيسِ بنِ شَمَّاسٍ» وكان خَطيبَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وخَطيبَ الأنْصارِ «وفي يَدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قِطْعةُ جَريدٍ»، أي: غُصنٌ مِن غُصونِ النَّخلِ، حتَّى وقَفَ أمامَ مُسَيْلِمةَ في أصْحابِه، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لَو سَأَلْتَني هذه القِطْعةَ»، أي: جَريدةَ النَّخلِ الَّتي كانت بيَدِه، «ما أعْطَيتُكَها، ولنْ تَعْدوَ أمْرَ اللهِ فيكَ»، أي: لن تَتجاوَزَ القَدْرَ الَّذي قَدَّرهُ اللهُ تعالَى فيكَ؛ وهو عدَمُ بُلوغِكَ ما تُريدُ، «ولئنْ أدبَرْتَ»، أي: فرجَعْتَ وامتنَعْتَ عنِ اتِّباعي، «ليَعْقِرَنَّكَ اللهُ»، أي: لَيُهلِكَنَّكَ ويَقتُلَنَّكَ، «وإنِّي لَأَراكَ الَّذي أُرِيتُ فيكَ ما رَأيْتُ»، أي: بمِثْلِ الرُّؤْيا المَناميَّةِ الَّتي رَأيْتُها في مآلِكَ ونِهايَتِكَ. وفي الصَّحيحَينِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ انصرَفَ عن مُسَيْلِمةَ بعْدَ ذلك، وقال له: «وهذا ثَابِتٌ يُجيبُكَ عَنِّي»، وهذا مِن التَّقْليلِ والإهانةِ لمُسَيْلِمةَ بانْصِرافِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
فسَأَلَ ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما عن رُؤْيا رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأخْبَرَه أبو هُرَيْرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّها رُؤْيا أَراها اللهُ تعالَى لنَبيِّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ وهي أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: «بيْنَما أنا نائِمٌ، رأَيْتُ في يَدَيَّ سِوَارَيْنِ مِن ذَهَبٍ»، والسِّوارُ: ما يُلبَسُ في مِعصَمِ اليَدِ مِن الحُليِّ وما يُشبِهُ ذلك، «فأهَمَّني شَأْنُهما»، أي: أحزَنَني لُبْسُهما؛ وذلك أنَّ الذَّهبَ مُحرَّمٌ على الرِّجالِ، «فأُوحيَ إلَيَّ في المَنامِ: أنِ انفُخْهُما»، أي: انفُخْ في السِّوارَينِ، فنَفَخْتُهما، فَطارَا، وسقَطَ السِّوَارانِ مِن يَدِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ففسَّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ السِّوارَيْنِ بأنَّهما سيَكونانِ كاذِبَينِ مُدَّعِيَينِ للنُّبوَّةِ تَقْوى شَوْكتُهم مِن بعْدِ زمَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فكان أحَدُ الكاذِبَينِ، «العَنْسيَّ»، وهو الأسْوَدُ بنُ كَعْبٍ الَّذي غَلَب على صَنْعاءَ البَلدِ المَعروفِ باليَمنِ، وغلَبَ على عاملِ صَنْعاءَ المُهاجِرِ بنِ أبي أُمَيَّةَ، والكذَّابُ الآخَرُ «مُسَيْلِمةَ الكذَّابَ صاحِبَ اليَمامةِ»، أي: الَّذي مِن مَدينةِ اليَمامةِ، وهي إقْليمٌ قَديمٌ مِن الجَزيرةِ العَربيَّةِ إلى الجَنوبِ مِن نَجْدٍ، إلَّا أنَّ اسْمَ نَجْدٍ طَغى على اسْمِ اليَمامةِ، وأصبَحَتِ اليَمامةُ مَحْصورةً في بَلدةٍ صَغيرةٍ تُعرَفُ حتَّى اليومِ باسْمِ اليَمامةِ، وتقَعُ في مِنطَقةِ الخَرْجِ، وفي مِنطَقةِ حَجْرِ اليَمامةِ، أُقيمَتْ عليها فيما بعْدُ مَدينةُ الرِّياضِ.
ثمَّ إنَّ مُسَيْلِمةَ رجَعَ إلى اليَمامةِ على حالَتِه تلك، إلى أنْ تُوفِّيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فعَظُمَ أمرُ مُسَيْلِمةَ، وأطبَقَ أهلُ اليَمامةِ عليه، وارتَدُّوا عنِ الإسْلامِ، وانضَمَّ إليهم بشَرٌ كَثيرٌ مِن أهلِ الرِّدَّةِ، فكاتَبَهم أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ كُتبًا كَثيرةً يَعِظُهم، ويُذَكِّرهم، ويُحذِّرُهم، ويُنذِرُهم، إلى أنْ بعَثَ لهم كِتابًا مع حَبيبِ بنِ عبدِ اللهِ الأنْصاريِّ، فقتَلَه مُسَيْلِمةُ، فعندَ ذلك عزَم أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه على قِتالِهم، فأمَّرَ أبو بَكرٍ خالدَ بنَ الوَليدِ رَضيَ اللهُ عنه، وتجَهَّزَ النَّاسُ، وصاروا إلى اليَمامةِ، فاجتَمَعَ لمُسَيْلِمةَ جَيشٌ عَظيمٌ، وخرَج إلى المُسلِمينَ، فالتَقَوْا، وكانت بيْنهم حُروبٌ عَظيمةٌ لم يُسمَعْ بمِثلِها، ثمَّ إنَّ اللهَ تعالَى ثبَّت المُسلِمينَ، وقتَل اللهُ تعالَى مُسَيْلِمةَ اللَّعينَ على يَدَيْ وَحْشيٍّ قاتِلِ حَمْزةَ، ورَماه بالحَرْبةِ الَّتي قتَل بها حَمْزةَ، ثمَّ أجهَزَ عليه رَجلٌ مِن الأنْصارِ، فاحتَزَّ رَأسَه، وهزَمَ اللهُ جَيشَه، وأهلَكَهم، وفتَحَ اللهُ اليَمامةَ، فدخَلَها خالدٌ، واستَوْلى على جَميعِ ما حوَتْه مِن النِّساءِ، والوِلْدانِ، والأمْوالِ، وأظهَرَ اللهُ الدِّينَ، وجعَل العاقِبةَ للمُتَّقينَ.
وفي الحَديثِ: مُعجِزةٌ ظاهِرةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهي مِن دَلائلِ نُبوَّتِهِ الشَّريفةِ.
وفيه: فَضلٌ ومَنْقَبةٌ لثابتِ بنِ قَيسٍ رَضيَ اللهُ عنه.
وفيه: أنَّ للإمامِ أنْ يَأْتيَ بنفْسِه إلى مَن قدِمَ يُريدُ لقاءَه منَ الكفَّارِ.
وفيه: أنَّ السِّوارَ وسائرَ أنْواعِ الحُليِّ تُعَدُّ للرِّجالِ بما يَسوءُهم.