باب: ومن سورة التوبة14
سنن الترمذى
حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن أنس، أن حذيفة قدم على عثمان بن عفان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فرأى حذيفة اختلافهم في القرآن، فقال لعثمان بن عفان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلفت اليهود والنصارى، فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت حفصة إلى عثمان بالصحف، فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الله بن الزبير أن انسخوا الصحف في المصاحف، وقال للرهط القرشيين الثلاثة: «ما اختلفتم فيه أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، حتى نسخوا الصحف في المصاحف»، بعث عثمان إلى كل أفق بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوا قال الزهري: وحدثني خارجة بن زيد بن ثابت، أن زيد بن ثابت، قال: " فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر} [الأحزاب: 23] فالتمستها فوجدتها مع خزيمة بن ثابت أو أبي خزيمة فألحقتها في سورتها " قال الزهري: فاختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه، فقال القرشيون: التابوت، وقال زيد: التابوه فرفع اختلافهم إلى عثمان، فقال: «اكتبوه التابوت فإنه نزل بلسان قريش» قال الزهري: فأخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن عبد الله بن مسعود، كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف وقال: «يا معشر المسلمين أعزل عن نسخ كتابة المصحف ويتولاها رجل والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر» - يريد زيد بن ثابت - ولذلك قال عبد الله بن مسعود: " يا أهل العراق اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها فإن الله يقول: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} [آل عمران: 161] فالقوا الله بالمصاحف " قال الزهري: «فبلغني أن ذلك كرهه من مقالة ابن مسعود رجال من أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم». «هذا حديث حسن صحيح، وهو حديث الزهري ولا نعرفه إلا من حديثه»
بذلَ الصَّحابةُ جُهْدَهم في حِفظِ كِتابِ اللهِ عزَّ وجَلَّ وصيانتِه، وتفاوتت أقدارُهم وعطاءاتُهم في ذلك الميدانِ.
وفي هذا الحَديثِ يَحكي أنَسُ بنُ مالِكٍ رضِيَ اللهُ عنه أنَّ حُذَيفةَ بنَ اليَمانِ رضِيَ اللهُ عنهما قَدِمَ عَلى عُثمانَ رضِيَ اللهُ عنه المَدينةَ في خِلافَتِهِ، وَكانَ عُثمانُ رضِيَ اللهُ عنه يُغازي أهلَ الشَّامِ -أي: يُجَهِّزُهم- في فَتْحِ أَرْمينِيَّةَ، وهي مَدينةٌ عَظيمةٌ بيْن بِلادِ الرُّومِ وخِلاط، قَريبةٌ مِن أَرْزَن الرُّومِ وَأذْرَبِيجانَ، وأَمَرَ أهْلَ الشَّامِ أنْ يَجتمِعوا مع أهْلِ العِراقِ في غَزوِهِما وَفَتْحِهِما. وأذْرَبِيجانُ إقليمٌ واسِعٌ يقعُ شمالَ غَربِ إيرانَ، شَرق أَرمِينيَّةَ، يُطِلُّ على بحْرِ قزْوينَ شَرْقًا. فَأفزَعَ حُذَيفةَ رضِيَ اللهُ عنه اختلافُ أهلِ الشَّامِ وأهلِ العِراقِ في القِراءةِ. وكان بعضُهم يقرأُ بقراءةِ أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، وبعضُهم بقراءةِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، وكلُّ فريقٍ يقولُ للآخَرِ: قراءتي خيرٌ من قراءتِك، فَقالَ حُذَيْفةُ لِعُثمانَ رضِيَ اللهُ عنه: يا أميرَ المُؤمِنينَ، أَدْرِكْ هذه الأُمَّةَ قبْلَ أنْ يَخْتَلِفوا في القُرآنِ اختِلافَ اليَهودِ والنَّصارى في التَّوراةِ والإنجيلِ. فَأرسَلَ عُثمانُ بنُ عفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه إلى أمِّ المُؤمِنينَ حَفْصةَ بنتِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنها: أنْ أرسِلي إلَينا بِالصُّحُفِ الَّتي كانَ أبو بَكرٍ رضِيَ اللهُ عنه أمَرَ زَيدًا رضِيَ اللهُ عنه بِجَمْعِها، نَنسَخُها في المَصاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّها إلَيكِ، فأرسَلَتْ بِها حَفْصةُ رضِيَ اللهُ عنها إلى عُثمانَ رضِيَ اللهُ عنه، فَأمَرَ زَيدَ بنَ ثابِتٍ، وعَبْدَ اللهِ بنَ الزُّبَيرِ، وَسَعيدَ بنَ العاصِ، وعَبْدَ الرَّحمَنِ بنَ الحارِثِ بنِ هِشامٍ رَضِيَ اللهُ عنهم، فَنَسَخوا الصُّحُفَ في المَصاحِفِ. وكان عُثمانُ رَضِيَ اللهُ عنه قد أمر الثَّلاثةَ -سَعيدًا، وعبدَ اللهِ، وعَبدَ الرَّحمنِ رَضِيَ اللهُ عنهم- أنهم إذا اختلفوا مع زيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه في شَيءٍ من القرآنِ، فلْيَكتُبوه ولْيُثبِتوه على الذي يوافِقُ لِسانَ ولَهجةَ قُرَيشٍ؛ وذلك أنَّ زيدًا كان من الأنصارِ أهلِ المدينةِ، وكان الثلاثةُ مِن مُهاجري قُرَيشٍ، فاستجابوا له وفعلوا ما أمرهم به، فلمَّا انتهوا أرجع إلى حفصةَ رَضِيَ اللهُ عنه صُحُفَها، ثم استنسخَ مِن هذا المصحَفِ نُسَخًا أرسلها لسائِرِ البلادِ والأمصارِ، وأمرهم أنَّ كُلَّ ما سوى ذلك يُحرَقُ، وجمع بذلك المسلمين ووحَّد تلاوتَهم حتى لا يكونَ هناك نزاعٌ وشِقاقٌ باختلافِهم في قراءاتِهم. ولَم يُرِدْ عثمانُ رَضِيَ اللهُ عنه بإحراقِ ما عدا المصاحِفَ التي أرسلها للأمصارِ، إلَّا الإشْعارَ بِشِدَّةِ عَزْمِهِ فيه، وصَلابَتِهِ في العملِ بمُقتَضاهُ؛ لئلَّا يَجريَ بيْن الأُمَّةِ اختِلافٌ في شَيءٍ منه
وفي الحَديثِ: اعتِمادُ المَصلَحةِ وَألَّا يَجْبُنَ المُؤمِنُ عنها.
وفيه: أنَّ الصَّحابةَ رضِيَ اللهُ عنهم لَم يَكونوا مُهمِلينَ لِشَيءٍ مِن القُرآنِ.
وفيه: ما يَدُلُّ عَلى شَرَفِ قُرَيشٍ وَأنَّهُم أفصَحُ العَرَبِ.
وفيه: تَحريقُ الكُتُبِ الَّتي فيها اسمُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ بِالنَّارِ، وَأنَّ ذلك إكرامٌ لَها، وَصَوْنٌ عَن وَطئِها بِالأقدامِ.