بيعة النساء 3
سنن النسائي
أخبرنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن أميمة بنت رقيقة أنها قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة من الأنصار نبايعه، فقلنا: يا رسول الله، نبايعك على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف، قال: «فيما استطعتن، وأطقتن». قالت: قلنا الله ورسوله أرحم بنا، هلم نبايعك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة، أو مثل قولي لامرأة واحدة»
مُبايَعةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَعني المُعاقَدةَ والمُعاهَدةَ على الإسلامِ، وسُمِّيت بذلك تَشبيهًا بالمُعاوَضةِ الماليَّةِ، كأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يَبيعُ ما عِندَه من صاحبِه؛ فمِن طرَفِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وَعدٌ بالثَّوابِ، ومِن طَرَفِهم: التزامُ الطَّاعةِ
وقد كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَأخُذُ البَيعةَ مِنَ النِّساءِ بالكلامِ دُونَ مُصافَحةٍ على عكسِ ما كانتِ البَيعةُ مع الرِّجالِ فإنَّها كانت بالكَلامِ والمُصافَحةِ، وفي هذا الحديثِ تُخبِرُ الصَّحابيَّةُ أُمُّ عطيَّةَ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أخَذَ منهنَّ البَيعةَ، وكانَ ممَّا اشترَطَ عليهنَّ ما ذُكِرَ في قولِ اللهِ تَعالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 12]، وشرَطَ عليهنَّ أيضًا: الانتهاءَ عنِ النِّياحةِ، وهيَ البُكاءُ عَلى الميِّتِ بصياحٍ وَعَويلٍ وَجزعٍ، وعدِّ شَمائلِ الميِّتِ ومَحاسِنِه؛ مِثلَ: وا شُجاعاهْ! وا أسَدَاهْ! وا جَبَلاهْ! فلمَّا نَهاهنَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَنِ النِّياحةِ قَبَضَت إحدى النِّساءِ يَدَها، أي: تَأخَّرت عن القَبولِ، ولا يَلزَمُ من مَدِّ اليدِ المصافحةُ؛ فيَحتمِلُ أن يَكونَ مَدُّ اليدِ بالإشارةِ بلا مُماسَّةٍ. وفي روايةِ مُسلِمٍ أنَّها أمُّ عَطيَّةَ رَضيَ اللهُ عنها
وإنَّما تَأخَّرت؛ لأنَّ إحدى النِّساءِ قد ساعَدَتها في النِّياحةِ على مَيِّتٍ لها في الجاهليَّةِ، وهي تُريدُ أن تُجازِيَها بما فعَلَت معها، فتُساعِدَها في النِّياحةِ على أحدِ مَوتاها، فسَكتَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ولم يقُل شيئًا، وفي روايةِ مُسلمٍ: «فقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، إلَّا آلَ فُلانٍ؛ فإنَّهُمْ كانوا أسْعَدُونِي في الجاهلِيَّةِ، فلا بُدَّ لي من أَن أُسْعِدَهُم، فقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إلَّا آلَ فُلَانٍ»، وهذا فيه تَصريحٌ بإذنِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لها بالإسعادِ، فيُحمَلُ على أنَّه من خُصوصيَّاتِ أمِّ عَطيَّةَ رَضيَ اللهُ عنها، وقيلَ: لأنَّه عَرَف أنَّ هذا ليسَ من جِنسِ النِّياحةِ المُحرَّمةِ؛ كأن تُساعِدَهم بنَحوِ البُكاءِ الذي لا نياحةَ معه، ولا شَيءَ من أفعالِ الجاهليَّةِ، كشَقِّ الجيبِ وخَمشِ الوجهِ، أو غيرِ ذلك، وقيلَ: إنَّ النّياحةَ كانت مُباحةً، ثُمَّ كُرِهت كراهةَ تَنزيهٍ، ثُمَّ تَحريمٍ
فذهَبَت هذِه المرأةُ ثُمَّ رجَعَت إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَبايعَها، وتقولُ أُمُّ عطيَّةَ رَضيَ اللهُ عنها: «فما وَفَتِ امرأةٌ» بِتَركِ النُّواحِ «إلَّا أُمُّ سُلَيمٍ، وأُمُّ العَلاءِ، وابنةُ أبي سَبْرةَ امرأةُ مُعاذٍ، أو ابنةُ أبي سَبْرةَ، وامرأةُ مُعاذ»، وهو شكٌّ مِنَ الرَّاوي
وفي الحديثِ: ضرورةُ الوفاءِ بالعُهودِ والمَواثيقِ المُبرَمةِ على الطَّاعةِ
وفيه: بيانُ ما عليه أكثَرُ النِّساءِ منَ النِّياحةِ وعدمِ الصَّبرِ على مُصيبةِ المَوتِ
وفيه: مَشروعيَّةُ الكلامِ مع المرأةِ فيما يُحتاجُ إليه من غَيرِ تَزيُّنٍ، ولا تَصنُّعٍ، ولا رَفعِ صوتٍ، وأنَّه ليس بِحَرامٍ