حديث أبي موسى الأشعري 85
مستند احمد
حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا عبد الملك يعني ابن أبي سليمان العرزمي، عن أبي علي رجل من بني كاهل قال: خطبنا أبو موسى الأشعري فقال: يا أيها الناس اتقوا هذا [ص:384] الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل. فقام إليه عبد الله بن حزن، وقيس بن المضارب فقالا: والله لتخرجن مما قلت أو لنأتين عمر مأذون لنا أو غير مأذون. قال: بل أخرج مما قلت، خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: «أيها الناس اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل» . فقال له: من شاء الله أن يقول وكيف نتقيه، وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: قولوا: «اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم»
حَذَّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُمَّتَه مِن كُلِّ ما يُبطِلُ أجْرَ الأعمالِ، ومِن ذلك: طَلَبُ الرِّياءِ بالأعمالِ
وفي هذا الحَديثِ يَروي مَعقِلُ بنُ يَسارٍ: "أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ لِأبي بَكرٍ: يا أبا بَكرٍ، لَلشِّركُ فيكم أخْفَى مِن دَبيبِ النَّملِ"، وهذا يَدُلُّ على أنَّ الإنسانَ قد يَخرُجُ مِنَ الإيمانِ إلى الكُفرِ أو الشِّركِ وهو لا يَشعُرُ، "والذي نَفسي بيَدِه"، وهذا قَسَمٌ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ باللهِ الذي يَملِكُ نَفسَه وقَبْضَ رُوحِه، أقسَمَ به مُؤكِّدًا لِلأمْرِ، ثم أعادَه فقالَ: "لَلشِّركُ أخْفَى مِن دَبيبِ النَّملِ"، وهذا مِنَ التَّحذيرِ؛ لِيَتحَرَّى السامِعُ البُعدَ عن هذا الشِّركِ الخَفيِّ الذي هو الرِّياءُ في العَمَلِ، الذي يُنافي الإخلاصَ المَأمورَ به، وهذا الرِّياءُ يُحبِطُ العَمَلَ، وسُمِّيَ شِركًا خَفيًّا؛ لِأنَّه يَكونُ غَيرَ ظاهِرٍ، بل يَكونُ في خَفايا النَّفسِ البَشَريَّةِ، ولا يَعلَمُه إلَّا اللهُ سُبحانَه وتَعالى، ولا يُظهِرُه العَبدُ لِلنَّاسِ؛ بل يُضمِرُه في قَلبِه، ويَفرَحُ بنَظَرِ النَّاسِ إلى عَمَلِه دونَ مُراعاةٍ لِنَظَرِ اللهِ، ودونَ قَصدِ وَجهِ اللهِ بالأعمالِ، وشَوائبُ الرِّياءِ الخَفيِّ كَثيرةٌ لا تَنحَصِرُ؛ فمَتى أدرَكَ الإنسانُ مِن نَفْسِه تَفْرِقةً بَينَ أنْ يُطَّلَعَ على عِبادَتِه أو لا يُطَّلَعَ عليها، ففيه شُعبةٌ مِنَ الرِّياءِ
"ألَا أدُلُّكَ على شَيءٍ إذا فَعَلتَه ذَهَبَ عنك قَليلُه وكَثيرُه؟"، بمَعنى: أُرشِدُكَ إلى ما يُساعِدُ ويُنَجِّي مِن هذه الشِّركيَّاتِ التي قد تَدخُلُ على الإنسانِ فتُفسِدُ له عَمَلَه، "قُلِ: اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بكَ"؛ فأحتَمي بكَ، وألجَأُ إليكَ "أنْ أُشرِكَ بكَ وأنا أعلَمُ"، أنَّ في عَمَلي رياءً، أو عَدَمَ إخلاصٍ أقصِدُه في ذلك العَمَلِ، "وأستَغفِرُكَ لِمَا لا أعلَمُ"، واغفِرْ لي ما لا أقصِدُه مما يُفسِدُ عَمَلي وإخلاصَه لكَ، فبَيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ النَّجاةَ تَكونُ بإخلاصِ الدُّعاءِ لهَِ، بأنْ يُنَجِّيَه مِن هذا الرِّياءِ؛ لِأنَّه لا يَدفَعُ عنِ الإنسانِ إلَّا رَبُّه، الذي وَلِيَ خَلقَه، فإذا تَعَوَّذَ به أعاذَه؛ لِأنَّه لا يَخيبُ مَنِ التَجَأَ إليه، وقَصَرَ نَظَرَ قَلبِه عليه
وقيلَ: إنَّما أرشَدَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى هذا التَّعَوُّذِ؛ لِئلَّا يَتَساهَلَ الإنسانُ في الرُّكونِ إلى الأسبابِ، ويرتَبِكَ فيها، فلا يَزالَ يُضَيِّعُ الأمرَ ويُهمِلُه حتى تُحَلَّ منه عُقدةُ الإيمانِ فيُشرِكَ وهو لا يَشعُرُ
ولكنْ ليس كُلُّ شائِبةٍ مُحبِطةً لِلأجرِ، ومُفسِدةً لِلعَمَلِ، وليس كُلُّ سُرورٍ برُؤيةِ النَّاسِ لِلعَمَلِ مُحبِطًا لِلأجرِ؛ لِأنَّ السُّرورَ يَنقسِمُ إلى مَحمودٍ، ومَذمومٍ؛ فالمَحمودُ أنْ يَكونَ قَصدُ الإنسانِ فيه إخفاءَ الطَّاعةِ، مع الإخلاصِ للهِ، ولكنْ لَمَّا اطَّلعَ عليه الخَلقُ، عَلِمَ أنَّ اللهَ أطلَعَهم، وأظهَرَ الجَميلَ مِن أحوالِه، فيُسَرُّ بحُسنِ صُنعِ اللهِ، ولُطفِه به؛ فيَكونَ فَرَحُه بذلك، لا بحَمدِ النَّاسِ، وقيامِ المَنزِلةِ في قُلوبِهم، وأمَّا إنْ كانَ فَرَحُه باطِّلاعِ النَّاسِ عليه لِقيامِ مَنزِلَتِه عِندَهم حتَّى يَمدَحوه، ويُعظِّموه، فهذا مَذمومٌ
وفي صَحيحِ مُسلِمٍ عن أبي ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه: "قيلَ: يا رَسولَ اللهِ، أرَأيتَ الرَّجُلَ يَعمَلُ العَمَلَ مِنَ الخَيرِ ويَحمَدُه النَّاسُ عليه؟ فقالَ: تِلك عاجِلُ بُشرى المُؤمِنِ"، فأمَّا إذا أعجَبَه لِيَعلَمَ النَّاسُ فيه الخَيرَ ويُكرِموه عليه؛ فهذا هو الرِّياءُ المَنهيُّ عنه
وفي الحَديثِ: دَعوةٌ لِلخَوفِ مِنَ الشِّركِ، والرِّياءِ في الأعمالِ؛ فإنَّه يُحبِطُ العَمَلَ