مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه562
مسند احمد
حدثنا حسن، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، ويونس بن عبيد، وحميد، عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " المؤمن من أمنه الناس، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السوء، والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه "
خطَبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المُسلِمين في حَجَّةِ الوَداعِ خُطبةً جامعةً، فنبَّهَ على أُصولٍ مُهِمَّةٍ مِن أُصولِ الشَّرِيعَةِ الإسلامِيَّةِ، منها حُرمةُ الدَّمِ والمالِ والعِرْضِ.
وفي هذا الحديثِ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال في حَجَّةِ الوَداعِ"، وهي آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَنةَ تِسْعٍ مِن الهِجرةِ قبْلَ وَفاتِه، واجتمَعَ فيها كثيرٌ مِن المُسلِمين؛ لِيَقْتدوا به، "هذا يومٌ حرامٌ وبلدٌ حرامٌ"، أي: يَحرُمُ فيهما فِعلُ الشَّرِّ والمعاصى أكثَرَ مِن غيرِهما، "فدِماؤُكم وأموالُكم وأعراضُكم عليكم حرامٌ، مِثْل هذا اليومِ وهذا البلِدِ، إلى يومِ تَلْقَونه"، وهذا تأكيدٌ للتَّحريمِ وتَغليظٌ وتَشديدٌ في حُرمةِ التَّعدِّي بدونِ وجْهِ حقٍّ على الأموالِ والأعراضِ والدِّماءِ، "وحتَّى دَفعةٌ دفَعَها مُسلِمٌ مُسلِمًا يُرِيدُ بها سُوءًا"، أي: حتَّى الضَّربةُ الخفيفةُ باليَدِ إذا أراد بها الدَّافِعُ والضَّاربُ سُوءًا بمُسلمٍ، فهي مَمنوعةٌ، "وسأُخْبِرُكم مَن المُسلِمُ: مَن سلِمَ النَّاسُ مِن لِسانِه ويَدِه"، أي: إنَّ المُسلِمَ الكامِلَ الجامعَ لخِصالِ الإسلامِ: هو مَن لم يُؤْذِ مُسلِمًا بقولٍ ولا فِعلٍ، وخصَّ اللِّسانَ واليدَ؛ لكَثرةِ أخطائِهما وأضرارِهما؛ فإنَّ مُعظَمَ الشُّرورِ تَصدُرُ عنهما؛ فاللِّسانُ يكذِبُ، ويَغتابُ، ويسُبُّ، ويَشهَدُ بالزُّورِ، واليدُ تَضرِبُ، وتقتُلُ، وتَسرِقُ، إلى غيرِ ذلك، وقدَّمَ اللِّسانَ؛ لأنَّ الإيذاءَ به أكثرُ وأسهَلُ، وأشدُّ نِكايةً، ويعُمُّ الأحياءَ والأمواتَ جميعًا، "والمُؤمِنُ مَن أمِنَهُ النَّاسُ على أموالِهم وأنفُسِهم"، أي: المُؤمنُ الحقُّ الَّذي تحقَّقَت فيه صِفَةُ الإيمانِ، وظهَرَتْ عليه علاماتُه، هو مَن يأْمَنُه النَّاسُ، ولا يَخافونَه على أنفُسِهم وأرواحِهم وأموالِهم؛ فلا يَقتُلُ، ولا يَسرِقُ، ولا يَنهَبُ، ويَحتمِلُ أنْ يكونَ المُرادُ بذلك الإشارةَ إلى الحثِّ على حُسْنِ مُعامَلةِ العبْدِ مع رَبِّه؛ لأنَّه إذا أحسَنَ مُعامَلةَ إخوانِه، فأوْلى أنْ يُحسِنَ مُعامَلةَ رَبِّه، مِن بابِ التَّنبيهِ بالأَدْنَى على الأعْلَى، "والمُهاجِرُ مَن هجَرَ الخطايَا والذُّنوبَ"، أي: المُهاجِرُ الكاملُ هو مَن هجَرَ ما نهى اللهُ عنه؛ فالمُهاجرُ المَمدوحُ: هو الَّذي جمَعَ إلى هِجرانِ وطَنِه وعَشيرتِه هِجرانَ ما حرَّمَ اللهُ تعالى عليه، فمُجرَّدُ هِجرةِ بلَدِ الشِّركِ مع الإصرارِ على المعاصي ليست بهِجرةٍ تامَّةٍ كاملةٍ؛ فالمُهاجرُ بحَقٍّ هو الَّذي لم يَقِفْ عندَ الهِجرةِ الظَّاهرةِ؛ مِن تَرْكِ دارِ الحربِ إلى دارِ الأمْنِ، بل هُو مَن هجَرَ كلَّ ما نَهَى اللهُ عنه، "والمُجاهِدُ مَن جاهَدَ نفْسَه في طاعةِ اللهِ تعالى"، أي: المُجاهِدُ ليس مَن قاتَلَ الكُفَّارَ فقطْ، بلِ المُجاهِدُ مَن حارَبَ نفْسَه وحمَلَها على طاعةِ اللهِ تعالى؛ لأنَّ نفْسَ الرَّجلِ أشَدُّ عَداوةً معه مِن الكُفَّارِ؛ لأنَّ الكُفَّارَ بَعيدونَ منه، وأمَّا نفْسُه فتُلازِمُه، وتَمنَعُه مِن الخيرِ والطَّاعةِ.