فضل النفقة في سبيل الله تعالى 2
سنن النسائي
أخبرنا عمرو بن عثمان، قال: حدثنا بقية، عن الأوزاعي، قال: حدثني يحيى، عن محمد بن إبراهيم، قال: أنبأنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة من أبواب الجنة: يا فلان، هلم فادخل " فقال أبو بكر: يا رسول الله، ذاك الذي لا توى عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن تكون منهم»
حَثَّ اللهُ عزَّ وجلَّ عِبادَه على المُسارَعةِ إلى الخَيراتِ، ووَعَدَ عليها بالثَّوابِ الجَزيلِ في الدُّنيا والآخِرةِ
وفي هذا الحَديثِ يَحْكي أبو هُرَيرةَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أخبَرَ أنَّ مَن تَصدَّقَ بعَدَدِ اثنَينِ مِن أيِّ شَيءٍ كان صِنفَين أو مُتشابِهَينِ، كبَقَرَتينِ، أو دِرهمَينِ، أو رَغيفَينِ، أو ثَوبينِ، ويَحتمِلُ أنْ يُرادَ به الإنفاقُ مرَّةً بعْدَ أُخرى، أي: جاعلًا الإنفاقَ عادةً له. وقولُه: «في سَبيلِ اللهِ»، أي: في طَلَبِ ثَوابِه، وهو أعمُّ مِن الجِهادِ وغيرِه مِن العِباداتِ؛ فمَن فَعَلَ ذلك نادَتْه الملائكةُ يومَ القِيامةِ مِن أبوابِ الجنَّةِ مُرحِّبةً بقُدومِه إليها، وهي تَقولُ: «يا عبدَ اللهِ، هذا خَيرٌ»، أي: هذا العمَلُ الَّذي عَمِلْتَه خَيرٌ مِن الخَيراتِ، والتَّنوينُ في «خيرٌ» للتَّعظيمِ، أي: خَيرٌ عَظيمٌ، فلَفْظُ «خَيرٌ» بمعْنى فاضِلٍ، لا بمعْنى أفضَلَ، وإنْ كان اللَّفظُ قدْ يُوهِمُ ذلك؛ ففائدتُه زِيادةُ تَرغيبِ السامعِ في طَلَبِ الدُّخولِ مِن ذلك البابِ، أو المرادُ: هذا البابُ الَّذي تُدْعى إليه لِتَدخُلَ منه خَيرٌ، أي: فيه خَيرٌ كثيرٌ، وإنَّما قِيل له هذا تَعظيمًا له وتَشريفًا
وقدْ جعَل اللهُ عزَّ وجلَّ لكلِّ عِبادةٍ بابًا مَخصوصًا في الجنَّةِ؛ فالمُكثِرون مِن الصَّلاةِ النافلةِ بعْدَ أداءِ الفرائضِ يُنادَون مِن بابِ الصَّلاةِ، ويَدخُلون منه، وهكذا الأمرُ بالنِّسبةِ إلى سائرِ العباداتِ مِن جِهادٍ وصَدَقةٍ. والمُكثِرون مِن الصَّومِ تَستقبِلُهم الملائكةُ عندَ بابِ الرَّيَّانِ داعيةً لهم بالدُّخولِ منه، والرَّيَّانُ: مِن الرِّيِّ، وهو نَقيضُ العَطَشِ؛ وسُمِّي بذلك؛ لأنَّه مَن دخَله لم يَظمَأْ أبدًا، وفي تَسميةِ البابِ بذلك مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ لأنَّه جَزاءُ الصَّائِمينَ على عَطَشِهم وجُوعِهم، واكتُفِيَ بذِكرِ الرِّيِّ عن الشِّبَعِ لأنَّه يَستلزِمُه، أو لكونِه أشقَّ على الصَّائمِ مِن الجُوعِ
وقولُه: «ومَن كانَ مِن أهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِن بَابِ الصَّدَقَةِ» ليس تَكرارًا لِقولِه: «مَن أنفَقَ زَوجَينِ»؛ لأنَّ الإنفاقَ ولو بالقَليلِ خَيرٌ مِن الخَيراتِ العَظيمةِ، وذاك حاصِلٌ مِن كلِّ أبوابِ الجنَّةِ، أمَّا هذا فهو استِدعاءٌ خاصٌّ
فقال أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه: أفْدِيك بأبِي وأُمِّي يا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ليس على الشَّخصِ الَّذي يُدْعى مِن أيِّ بابٍ مِن تلك الأبوابِ ضَرَرٌ يَلحَقُه أبدًا؛ لأنَّ مآلَهُ الفوزُ بنَعيمِ الجنَّةِ. ويَحتمِلُ أنْ يكونَ المعْنى: أنَّ مَن دُعِيَ مِن بابٍ مِن تلك الأبوابِ لَيستْ له حاجةٌ إلى أنْ يُدْعى مِن جَميعِ الأبوابِ؛ إذ البابُ الواحِدُ يَكفي لدُخولِه الجنَّةَ
ثمَّ سَأَلَ أبو بَكرٍ رضِي اللهُ عنه رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هلْ يُدْعَى أحدٌ مِن تلك الأبوابِ كلِّها؟ فأجابَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: نَعَم، يُوجَدُ مِن المؤمنِينَ مَن يُدْعى مِن الأبوابِ كلِّها؛ لكَثرةِ عِباداتِه وتنوُّعِها واختلافِها، ثم قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «وأرْجو أنْ تكونَ منهم» يا أبا بَكْرٍ؛ فإنَّه رَضيَ اللهُ عنه كان قدْ جَمَعَ خِصالَ تلك الأبوابِ كلِّها، كما في صحيحِ مُسلمٍ عن أبي هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «منَ أصبَحَ منكم اليومَ صائمًا؟ قال أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه: أنا، قال: فمَن تَبِعَ منكم اليومَ جِنازةً؟ قال أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه: أنا، قال: فمَن أطعَمَ منكم اليومَ مِسكينًا؟ قال أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه: أنا، قال: فمَن عادَ منكم اليومَ مَريضًا؟ قال أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه: أنا، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما اجتَمَعْنَ في امرئٍ إلَّا دَخَلَ الجنَّةَ»
وفي الحَديثِ: أنَّ الملائكةَ يُحِبُّون صالحِي بَني آدَمَ، ويَفرَحون بهم
وفيه: أنَّ الإنفاقَ كلَّما كان أكثَرَ كان أفضَلَ
وفيه: أنَّ تَمنِّيَ الخيرِ في الدُّنيا والآخِرةِ مَطلوبٌ
وفيه: فَضيلةٌ ظاهرةٌ لأبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رَضيَ اللهُ عنه
وفيه: بَيانُ فَضلِ مَن جَمَعَ بيْن خِصالِ الخيرِ
وفيه: مَشروعيَّةُ مَدْحِ الإنسانِ في وَجْهِه إذا لم يُخَفْ عليه فِتنةٌ مِن إعجابٍ وغيرِه