كتاب صلاة الخوف 18
سنن النسائي
أخبرنا عمرو بن علي، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بنخل والعدو بيننا وبين القبلة فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكبروا جميعا، ثم ركع فركعوا جميعا، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما قاموا سجد الآخرون مكانهم الذي كانوا فيه، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، فركع فركعوا جميعا، ثم رفع فرفعوا جميعا، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذين يلونه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وجلسوا سجد الآخرون مكانهم، ثم سلم»، قال جابر: كما يفعل أمراؤكم
صلاةُ الخوفِ هي الصَّلاةُ الَّتي تَحضُرُ والمسلِمونَ مُتعرِّضونَ لقِتالِ العدوِّ، ولمَّا كانتِ الصَّلاةُ أعظَمَ أركانِ الإسْلامِ العَمليَّةِ، فإنَّها لم تَسقُطْ بحالٍ حتَّى أثناءَ الحَربِ
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي جابِرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما إحْدَى كَيفِيَّاتِ صَلاةِ الخَوْفِ في الحَرْبِ؛ وذلك أنَّه شَهِدَ معَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صَلاةَ الخَوْفِ حيث صَفَّ جميعُ الجيشِ خَلفَه صَفَّيْنِ مُتَتاليَينِ، وكانَ العَدُوُّ بيْنَهم وبيْنَ القِبْلةِ، وهذا إشارةٌ إلى أنَّ الجميعَ سيكونُ في مواجَهةِ العَدوِّ سواءٌ مَن وقَفَ للصَّلاةِ، أو وقَفَ للحِراسةِ، فشرَعَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الصَّلاةِ، فكَبَّرَ تَكْبيرةَ الإحْرامِ، وكبَّرَ الجيشُ معَه جَميعًا، ثُمَّ ركَعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَعدَ القِراءةِ، وَرَكَعُوا جمِيعًا، ثُمَّ رفعَ رَأْسَه مِنَ الرُّكُوعِ، ورفَعوا جمِيعًا، ثُمَّ سجَدَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وسجَدَ الصَّفُّ الَّذي يَلِيهِ فقط، بينَما ظلَّ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ واقِفينَ مَكانَهم حِراسةً لِمَن أمَامَهم في سُجودِهِم، وهم كانوا في نَحْرِ العَدُوِّ أي: في مُقابلتِه وحِذاءَه، ونَحرُ كلِّ شَيءٍ: أوَّلُه؛ وذلك كَيْلا يُهاجِمَهمُ العدوُّ وهم ساجِدونَ، فَلمَّا فرَغَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ السَّجدَتَينِ وقامَ معَه الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذي سجَدَ أوَّلًا، نزَلَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ، ثُمَّ لمَّا انتهَوْا مِن سُجودِهم قاموا، ثُمَّ تقَدَّمَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ ووقَفوا مَكانَ الصَّفِّ الأوَّلِ؛ وذلك بعدَ أنْ تَساوَوْا معَ الأوَّلِينَ في القِيامِ خَلفَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الرَّكْعةِ الثَّانِيةِ، وتأخَّرَ الصَّفُّ المُقَدَّمُ، ثُمَّ ركعَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعدَ قِيامِهِ وَقِراءتِهِ، وركَعَ الجَيشُ جمِيعًا، ثُمَّ رفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكوعِ، ورفَعَ الجيشُ جَميعًا، ثُمَّ نزَلَ بِالسُّجودِ وسجَدَ معَه الصَّفُّ الَّذي يَليهِ الَّذي كان مُؤَخَّرًا في الرَّكْعةِ الأُولى، بينَما قامَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ ووقَفَ في نَحْرِ العَدُوِّ لحراسةِ السَّاجِدينَ، فلمَّا انْتَهى صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ السُّجودِ وَالصَّفِّ الَّذِي يَليهِ، نزَلَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ بِالسُّجودِ فَسجَدوا، ثُمَّ بعدَ انْتِهائِهِم مِنَ السُّجُودِ وَالتَّشَهُّدِ، سَلَّمَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وسَلَّمَ بعدَه جميعُ المُصلِّينَ منَ الصَّفَّينِ؛ لأنَّهم قد أتَمُّوا صلاتَهم
ثُمَّ قال جَابِرٌ رَضيَ اللهُ عنه لمَن حولَه: «كما يصنَعُ حَرَسُكُم هَؤُلَاءِ بأُمَرَائِهِمْ»، أي: خَدَمُ السُّلطانِ المُرتَّبُونَ لحِفظهِ وحِراستهِ؛ فصَلاتُهم تُشبهُ الصَّلاةَ الَّتي كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُصلِّيها عندَ حُضورِ العدوِّ
وقد ورَدَ في كيفيَّةِ صلاةِ الخَوفِ صفاتٌ كثيرةٌ، وهذه إحْدى الرِّواياتُ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فيها، وقد صلَّاها في أيَّامٍ مُختلفةٍ بأشْكالٍ مُتَبايِنةٍ يَتحرَّى فيها ما هو الأحْوطُ للصَّلاةِ والأبلَغُ للحِراسةِ؛ فهي على اخْتلافِ صُوَرِها متَّفِقةُ المَعنى
وفي الحَديثِ: بَيانُ صِفةٍ وَهَيْئةٍ لِصلاةِ الخَوْفِ
وفيه: بَيانُ أهمِّيَّةِ صَلاةِ الجَماعةِ؛ إذ شُرِعَتْ في حالةِ الخَوفِ؛ فالأَوْلى بالآمِنِ المُطمَئنِّ الحِرصُ عليها
وفيه: أخْذُ الحَذَرِ منَ العَدوِّ في وَقتِ المَعرَكةِ بكلِّ الوَسائلِ
وفيه: أنَّ الدِّينَ يَأمُرُ بالعِباداتِ الَّتي تَحفَظُ العَبدَ أمامَ اللهِ في الآخِرةِ، ويَأمُرُ بالأخْذِ بالأسْبابِ الَّتي تَحفَظُ العَبدَ في الدُّنْيا
وفيه: يُسرُ الشَّريعةِ على المُكلَّفينَ في أداءِ الصَّلاةِ