محاضرة 14

بطاقات دعوية

السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاتهْ، إِنِّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ شُرُوْر أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.

هٰذِه المُحاضرة هِيَ الرَّابِعَة عَشرة من (عِلْم العقيدة)، وما زَال الحَدِيْث مُتصلًا والمُوقظة التَّاسِعة، وَقَدْ بينتُ في المُحاضرة السابقة عِدة أمورٍ منها:

بينتُ معنى كُفر النِعمة، وبينتُ صور أصحاب الْكَبَائِر وأحكامهم، كَذَلِكَ ذكرت بعض مرويات لَيْسَ مِنّا، وبينتُ أَن كُل نَصٍ ذُكِر فيه ما لَيْسَ في غيره، وبينت مذاهب الناس في لَيْسَ مِنّا، وَهِيَ خمسة مذاهب: أربعةٌ منها هِيَ الباطل بعينه ولا يصح إِلَّا مذهب أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ.

وبينتُ كَذَلِكَ مُتعلق كُل مذهب فمثْلًا قُلْنَا في الْخَوَارِج: لَيْسَ مِنّا أي لَيْسَ معدودًا مِن مِلتنّا، ونبهتُ أَيْضًا عَلَىٰ مَسْأَلَةٍ في غاية الأهمية: أَن بعض أهل الْعِلْم من أهل السُّنَّة قَدْ يُوافق أهل الْبِدَع في مَسْأَلَة فلا يكون منهم؛ بل غايتها أَنَّهُ أصاب بِدَعةً، وَقَدْ ذَكَرَت هٰذِه الْمَسْأَلَة بشيءٍ من التفصيل في كلامنا عَنْ الأَشَاعِرَةِ.

واليوم إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَىٰ نبدأ في تعيين نوع الذنب المُتعلق بلَيْسَ مِنّا ما المُراد بهذه الْكَلِمَة؟ لَيْسَ مِنّا هل مُتـعلقها باعتبار الذنب هل هُوَ الصغيرة أم الكبيرة أو الْكُفْر عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ؟

أقول: أولًا: صِّيغَة لَيْسَ مِنّا تتضمن زَجَّرًا عظيمًا، وذَمًا كَبِيْرًا، ووعيدًا بعذاب الله وسَخطه، هٰذِه الْكَلِمَة لَيْسَ مِنّا تتضمن زَجَّرًا عظيمًا، وذَمًا كَبِيْرًا، ووعيدًا بعذاب الله وسَخطه.

وكما هُوَ معلوم عندكم أَن الزَجر والذَم والوعيد لا يدخلان في باب المندوبات ولا في باب المكروهات، وعليه فلَيْسَ مِنّا لا يدخل فيها من ترك مندوبًا أو فَعل مكروهًا؛ إِنَّمَا الَّذِي يدخل فيها وَفَقَطْ: هُوَ من ترك مأمورًا واجبًا أو فَعل محظورًا مُحرمًا.

فتعين أَن هٰذِه الصِّيغَة لا تعلق لها البتة بباب المندوبات ولا بباب المكروهات، وأنتم أَيْضًا تعلمون أَن المُحرمات عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ دركات أقربها الصَّغَائِر، تحتها الْكَبَائِر، تحتها الْكُفْر عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ.

وعليه فَإِن مُـتعلق لَيْسَ مِنّا لا يُمكن أبدًا أَن يكون هُوَ الْكُفْر، لِأَنَّ هٰذَا باطلٌ بِالنَّصِّ والإجماع كما بيناه آنفًا، فقد انعقد الإجماع أَن المذكورات في الأَحَادِيْثِ الَّتِي ذَكَرَتها من أولها إِلَىٰ آخرها لَيْسَ كُفرًا مُخرِجًا من الْمِلَّة؛ بل إن بعض أهل الْعِلْم يَقُول عَنْ المذكورات في أَحَادِيْثِ أو في مرويات لَيْسَ مِنّا: "تَتردد بين كراهة التَّحْرِيْم وكراهة التنزيل".

وفي الحقيقة لا يَحسن أبدًا أَن أُعدي هٰذِه الجُزئية، فتقسيم المكروه إِلَىٰ كراهة تحريم وكراهة تنزيه هٰذَا تقسيم يخص أبى حنيفة رحمه الله  والأحناف؛ أَمَّا بقية أَهْلِ السُّنَّةِ فلا يعرفون هٰذَا التقسيم وَهٰذَا التقسيم باطلٌ قولًا واحدًا، فَإِن الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة التكليفية خمسة لا غَيْر:

| طرفان ووسط.

| الطرف الأيمن: الواجب والمندوب.

| والطرف الأيسر: المُحرَم والمكروه.

| وبينهما المُباحْ.

أَمَّا الْأَحْكَامُ التكليفية عند أبي حنيفة رحمه الله  والأحناف يقولون: الطرف الأيمن: الفرض والواجب والمندوب، ففرقوا بين الفرض والواجب، وَهٰذَا باطلٌ مِمَّا لَا شَكَّ فيه شَرعًا بل ولُغَةً.

كَذَلِكَ الطرف الأيسر قَالُوا: المُحرَم والمكروه كراهة تحريم، والمكروه كراهة تنزيه، وجعلوا بينهما المُباح، فالقِسمة عندهم سُباعية والقِسمة عند غيرهم من أَهْلِ السُّنَّةِ خُماسية وَهِيَ الَّتِي قام عليها الدليل الشرعي.

لذلك هٰذَا القول مرفوض مِمَّا لَا شَكَّ فيه، لِأَنَّ قولهم: هٰذَا من باب كراهة التَّحْرِيْم أو تتردد بين كراهة التَّحْرِيْم وكراهة التنزيه لا يُناسب ما تَضمنه لفظ أو صِيغة لَيْسَ مِنّا كما سيأتي.

ثانيًا: إِمَّا أَن مُتعلق لَيْسَ مِنّا هُوَ الصغيرة، وَهٰذَا أَيْضًا من الباطل بمكان فَإِن السابقين المُقربين يقعون في الصَّغَائِر قولًا واحدًا، وَقَدْ بينت فِيمَا سبق: أَن الْأَنْبِيَاء وَالرُّسُل ليسوا معصومين من الوقوع في الصَّغَائِر ابتداءً وإن كانوا معصومين من عدم التوبة مِنها، فَإِن كانت الصَّغَائِر تقع من الْأَنْبِيَاء أيقول عاقلٌ عَلَىٰ وجه الْأَرْض: أَن صِّيغَة لَيْسَ مِنّا تشمله؟ فيكون قَدْ زُجِرَ وَقَدْ ذُمَ وَقَدْ وُعِدَ بعذاب الله؟ هٰذَا مِمَّا لَا شَكَّ فيه لا عِلِاقة له بالْعِلْم.

لذلك المولى عزوجل  يَقُول: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى 31 الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ 32﴾ [النجم: 31، 32] أي إِلَّا الصَّغَائِر كما بينتُ ذَلِكَ آنفًا.

فقوله: ﴿وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى 31﴾ [النجم: 31]، هَؤُلَاءِ هُم المُقربون هَؤُلَاءِ هُم السابقون كما في قوله تَعَالَىٰ: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ 32﴾ [فاطر: 32]، فالسابق هٰذَا أعلى رُتبة مِمَّا لَا شَكَّ فيه، فلا يحسن البتة وصف السابقين بهذه الصِّيغَة.

الأعجب من هٰذِه: إن كان السابقون المُقربون المُحسنِوُن يدخلون تَحْتَ هٰذِه الصِّيغَة لأنهم يرتكبون الصَّغَائِر؛ فَمنَ دونهم من أولهم إِلَىٰ آخرهم من باب أَّوْلى أَن يدخلوا تَحْتَ هٰذِه الصِّيغَة، وَهٰذَا يُفضي إِلَىٰ كارثة: أَن هٰذِه الأُمَّة من أولها إِلَىٰ آخرها مُتوعدة بالعذاب، وَهٰذَا مِمَّا لَا شَكَّ فيه أمرٌ في غاية الخطورة.

ناهيك أَن الصَّغَائِر تُكفَر باجتناب الْكَبَائِر وبعض المباني: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ 31﴾ [النساء: 31].

والحَدِيْث أنتم تحفظونه: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَىٰ الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَىٰ رَمَضَانَ، مُكَفَّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إّذا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ».

إِذًاْ الصَّغَائِر ابتداءً تُغفر بمثل هٰذِه الأمور، فكيف يكون مُتعلِق لَيْسَ مِنّا هُوَ الصغيرة، فَإِن انتفت الكبيرة وانتفت الصغيرة تعين يقينًا أَن مُتعلِق لَيْسَ مِنّا باعتبار الذنب هُوَ الكبيرة، بمعنى أَن كُل نَصٍ فيه من فَعل كذا فَلَيْسَ مِنّا أو من تَرك كذا فَلَيْسَ مِنّا فَمِمَّا لَا شَكَّ فيه هذ المُـتعلِق كبيرةٌ من الْكَبَائِر ولا مَخَلص إِلَّا هٰذَا.

لذلك هٰذَا في شريعتنا وصَفٌ للظالم لنفسه لِأَنَّ الله عزوجل  يَقُول: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ 32﴾ [فاطر: 32].

فَالظَالِمُ لِنَفْسِهِ هُوَ صاحب الكبيرة، وَقَدْ بينتُ هٰذِه الْمَسْأَلَة بشيءٍ من التفصيل أظن في مَسَائِلٍ سابقة في التَمهيد؛ لذلك يحسن هُنا أَن أنتخب بعض الأَحَادِيْثِ وأتكلم عنها لأنها تتضمن بعض الْمَسَائِل غَيْر الَّتِي ذُكِرت فِيمَا سَبق.

فأول هٰذِه الْمَسَائِل: حَملُ السلاح عَلَىٰ الْمُسْلِمِينَ، رَوى أحمدُ والشيخان عَنْ ابْن عُمَر رضي الله عنهما  قَالَ: قَالَ صلى الله عليه و سلم : «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا».

وَأَيْضًا حديثٌ رواه أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه و سلم :«مَنْ رَمَانا بِاَللَّيْل فَلَيْسَ مِنَّا».

أنا أُريد في المُفردات أَن أقف عَلَىٰ لفظة ألا وَهِيَ: «مَنْ حَمَلَ»، فحَملُ السِّلاحَ مرحلةٌ قبل المُقاتلة فَبِمُجرد أن تُشهِر السلاح هٰذِه مَسْأَلَة، المُقاتلة مَسْأَلَةٌ أخرى وَمِمَّا لَا شَكَّ فيه إشِهارُ السلاح رُتبة في الكبيرة أقل من رُتبة نفس المُقاتلة، وَقَدْ أثبتنا فِيمَا سبق أَن المُقاتلة كبيرةٌ من الْكَبَائِر، إِذًاْ حَملُ السلاح هُوَ كبيرةٌ من الْكَبَائِر وإن كانت أقل خَطرًا من المُقاتلة.

لذلك أُنبه أَيْضًا: المُراد هُنا بحمل السلاح قطعًا في غَيْر الحراسة فالحراسة يَجُوز فيها حَمل السلاح؛ لذلك نَبِيِّنَا صلى الله عليه و سلم  نَهى عَنْ حَمل السلاح في مكة ويقصد للقِتال ولكن للحِراسة لا شيء في ذَلِكَ مِمَّا لَا شَكَّ فيه.

الْفِقْهياتُ في هٰذَا الحَدِيْث: قتل الْمُسْلِمِينَ بعضهم بعضًا كبيرةٌ من الْكَبَائِر وليس كُفرًا؛ والأدلة عَلَىٰ ذَلِكَ كثيرة وكثيرة جِدًّا قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا 9﴾ [الحجرات: 9].

فهُنا بين الله عزوجل  أَن المُؤْمِنِيْنَ من المُمكِن أَن يقتتلوا؛ لذلك سماهم الله عزوجل  بِالمُؤْمِنِيْنَ حال الاقتتال ولم يسلبهم هٰذَا الاسم أو هٰذَا الوصف بأي وجه من الوجوه، ومعلوم أَن الْكَافِر لا يُسمى مُؤمنًا بأي وجهٍ من الوجوه.

ناهيك أَن الله عزوجل  يَقُول: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا 9﴾ [الحجرات: 9]، فنحن أُمرنا بأن نُصلِح بين الْمُسْلِمِينَ، ولم نُؤمر قَط بأن نُصلِح بين الْكَافِرِين عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ.

لذلك الَّذِي يؤكد هٰذَا الحَدِيْث المُتَّفَق عَلَيْهِ عَنْ أبي بكرةَ رضي الله عنه  قَالَ: قَالَ صلى الله عليه و سلم : «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَالقَاتلُ والمَقتولُ في النَّار»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ حريصًا عَلَىٰ قَتْلَ أَخِيهِ، أو صاحبه»، الحَدِيْث.

كما تَلحظ أَن النَّبِيّ صلى الله عليه و سلم  سَماهما مُسْلِمِينَ حَال الاقتتال، ولم يسلبهما هٰذَا الاسم أو هٰذَا الوصف؛ ولكن قَدْ يَقُول القائل: نَبِيِّنَا صلى الله عليه و سلم  يَقُول: «أنهما في النَّار»، قُلْت: يا أخي هٰذَا خارج البحث لأنهما في النَّار بعد قتل أحَدهِما الآَخَر، والبحث في هٰذِه الْمَسْأَلَة في مُجرد حَمل السلاح، وَهُوَ مُستفاد من مُجرد التقاء السيوف.

ثُمَّ هُما بعد الاقتتال أَيْضًا بِالنَّصِّ هُما من الْمُسْلِمِينْ وإن لم يتوبا، وإن لم يُقَم عليهم الحَد، وإن لم تنلهما الشفاعة، نعم سيدخلون النَّار إن لم يقع تَحْتَ واحدةٍ من الثلاثة، ولكن قطعًا سيخرجون من نار جهنم، فَإِن نالته الشفاعة ابتداءً فلم ولن يدخلها ابتداءً، فَإِن دخلها قَدْ تناله قبل أَن يستوفي العذاب فيخرج، وَقَدْ لا تناله حَتَّىٰ يستوفي العذاب فيخرج؛ لذلك هٰذِه في غاية الأهمية فانتبه لها.

لذلك الحَدِيْث الَّذِي رواه البُخَارِيّ رحمه الله  عَنْ أبي بكرةَ رضي الله عنه  قَالَ: قَالَ صلى الله عليه و سلم : «إنَّ ابْني هَذَا سَيِّدٌ؛ وَلَعَلَّ الله أنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عظيمتين مِنَ الْمُسْلِمِينَ».

إنَّ ابْني هَذَا يَعْنِي عَلَىٰ الحَسنْ، وفئتان عظيمتان من الْمُسْلِمِينَ هُما فئة علي رضي الله عنه ، وفئة مُعاوية رضي الله عنه ، وأنتم تعلمون أَن المَقتلة الكبيرة الَّتِي حصلت بين الفريقين؛ إِذًاْ تبين جَليًا أَن حَمل السلاح مِمَّا لَا شَكَّ فيه لَيْسَ كُفرًا بل هُوَ كبيرةٌ من الْكَبَائِر.

 الَّذِي يُؤكد هٰذِه القضية: حديثٌ رواه أحمد عَنْ أُم حبيبةَ رضي الله عنها  قَالَتْ: قَالَ صلى الله عليه و سلم : «أُرِيتُ مَا تَلْقَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي، وَسَفْكَ بَعْضِهِمْ دِمَاءَ بَعْضٍ، وَكَانَ ذَلِكَ سَابِقًا مِنْ اللَّهِ، كما سبق في الأُمَّمِ قبلهم، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يُولِيَنِي شَفَاعَةً فِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَفَعَلَ».

وَهٰذَا النَّصّ واضح فهل تُوجد شفاعة للكافر بمعنى من المُمكن أَن يخرج بها من نار جَهنم؟ أو أَن لا يدخلها ابتداءً؟ هٰذَا يستحيل فَإِن الشفاعة بِالنَّصِّ لأهل الْكَبَائِر من أُمتي كما قَالَ صلى الله عليه و سلم .

أنا أدري أَن الشفاعة قَدْ ينالها بعض الْكُفَّار لا لإخراجهم من نار جهنم عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ؛ ولكن لتخفيف نوع العذاب عليهم وَهٰذِه واضحة في قِصة أبي طالب رضي الله عنه  وَأَرْضَاهُ حَيْثُ قَالَ صلى الله عليه و سلم : «لولا أنا لَكانَ في الدَّرْكِ الأسفَلِ مِن النَّارِ، إِنَّهُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنها»، والحديث تعرفونه.

فَإِن تبين لك ما سبق تبين بُطلان مذهب الْخَوَارِج، حَيْثُ يَزعمون أَن مُجرد حَمل السلاح كُفرٌ عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ، وكُفرٌ مُخرِجٌ من الْمِلَّة.

العجب: أَن الْخَوَارِج -كَمَا تَعْلَمُونَ- حَكموا عليهم في الدُّنْيَا بالْكُفْر، وقَالُوا: وإن تابوا وماتوا عَلَىٰ ذَلِكَ فإنهم في نار جهنم خالدين مُخلدين فيها أبدًا أي كُفَّار في الآخرين، فلو جئنا إِلَىٰ الْمُعْتَزِلَة عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ أحدثوا شَيْئًا لا يُمكن أَن يُبرَر بأي وجهٍ من الوجوه، فقَالُوا: "هُوَ منزلةٍ بين المنزلتين"، طيب ما اسمها؟ لا ندري، حاجة غريبة جِدًّا!

طيب ما هُوَ حُكمه في الْآخِرَة إن مات ولم يَتب؟ قَالُوا: هُوَ كافر وسيدخل نار جهنم خالدًا مُخلدًا فيها، إِذًاْ هم في حقيقة الأمر اتفقوا في المآل في الغاية في النهاية ولكن اختلفوا مع الْخَوَارِج في الاسم في الدُّنْيَا.

وعليه تبين صِحة مذهب أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ: أَن معنى لَيْسَ مِنَّا أي لَيْسَ عَلَىٰ طريقتنا في هٰذِه الْمَسْأَلَة وإن كان عَلَىٰ طريقتنا في بقية الْمَسَائِل؛ لذلك انظر ماذا يَقُول ابْن تَيْمِيَّة المُفتَرى عَلَيْهِ في المُجلد الحادي عشر الصفحة الْثَّانِية والخَمسون وستمائة من (مجموع الفتاوى).

يَقُول ما نصه: "وَكَذَلِكَ كُلُّ ذَنْبٍ تُوُعِّدَ صَاحِبُهُ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَلَا يَشُمُّ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ"، أي لو وُجِد نص من فَّعل كذا لا يدخل الجَنَّة، وَلَا يَشُمُّ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ أي إذا وُجِد في نص أَنَّهُ من فَعل كذا لَا يَشُمُّ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، "وَقِيلَ فِيهِ: مَنْ فَعَلَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَأَنَّ صَاحِبَهُ آثِمٌ فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ".

هٰذَا نص كلام ابْن تَيْمِيَّة رحمه الله  تَعَالَىٰ, العَجَب: أَن الْمُعْتَزِلَة يُكفرون ابْن تَيْمِيَّة، عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ ضلالٌ مُبين وافتراءٌ ظاهر.

توجد هُنا مَسْأَلَة في الحقيقة لا أُريد أَن أمَر عليها؛ ولكن أُبينها وإن شئت تفصيلها ففي (أصول الفَهم) عَلَىٰ ما أذكر في المُجلد الْثَّانِي.

قوله صلى الله عليه و سلم : «إِنَّهُ كَانَ حريصًا عَلَىٰ قَتْلَ صَاحبه»، يَعْنِي قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ يَعْنِي حيًا فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ يَعْنِي اللي ده؟ قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ حريصًا عَلَىٰ قَتْلَ صَاحبه»، أمر في غاية الخطورة.

أي عملٍ يحتاج إِلَى شيئين:

| يحتاجُ إِلَىٰ قدرةٍ.

| وَإِلَىٰ إرادة.

فَمَتَىٰ توفرت القُدرة والإرادة وُجدِ العمل وَلَا بُدَّ، فَإِن وُجِدت القُدرة ولا إرادة له انتفى العمل، وإن وُجِدت الإرادة وانتفت القُدرة انتفى العمل، ومن باب أَّولى إن لم تُوجد القُدرة ولا الإرادة سينتفي العمل.

إِذًاْ هٰذِه الرُباعية ثلاثة منها العمل لا و جود له؛ وواحدةٌ وَفَقَطْ العمل موجود، طيب القاتل كان عنده قُدرة وكان عنده إرادة فقتل فترتب عَلَيْهِ حُكمه، طيب الْمَقْتُولِ ليه؟ انتبه نَبِيِّنَا قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ حريصًا عَلَىٰ قَتْلَ أَخيه».

إِذًاْ في حقيقة الأمر أَنَّهُ كان يُريد ذَلِكَ ولكن القُدرة لَمْ تَسعفه عَلَىٰ تحقيق ذَلِكَ، فَإِن وُجِدَت الإرادة وعَجزت عن العَمل تعلق بك الثواب والعِقاب، ويُفسرها قوله صلى الله عليه و سلم : «فَهُما في الأجر سواء، وهُما في الوزِر سواء»، عَلَىٰ تفصيلٍ معروفٍ في مكانه.

مِثَالٌ آخر: حديثٌ رواه أحمد عَنْ ابْن عمروُ رضي الله عنهما : «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشبَّه بِاَلرِّجَال مِن النساء، ولا مَنْ تشبَّه بالنساء مِن اَلرِّجَال»، ما معنى تَشبه التَشبه هُوَ المُماثلة ولكن يجب أَن تنتبه إِلَىٰ الآتي: "لا يَلزمُ من كُل وجه".

لذلك في باب التشبيه يوجد المُشبَه والمُشبَه بِهِ ووجه الشبه، لأنه لو كان يُشابهِهُ في كُل شيء لكان هُوَ هُوَ وَهٰذَا يستحيل؛ لذلك المُراد: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشبَّه بِاَلرِّجَال مِن النساء»، أي أَن رَجُلًا أخذ خَصلةً من خِصال النِساء والتزمها، فهو تشبه بالنساء من هٰذَا الوجه وَهٰذِه هِيَ المُماثلة ويُعرف النِساء بغير ذَلِكَ.

فالمُماثلة مثْلًا قَدْ تكون في اللِباس تجد رجل يلبس لِبسة المرأة، أو أَن المرأة تلبس لِبسة الرَّجُل، وَقَدْ تكون في الأسواق عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ رَجُلٌ يتكلم بطريقةٍ فيها خضوع وميوعة كما تفعل النِساء أو كعادة كثيرٍ من النِساء هٰذَا لا يصح، أو أَن امرأةً عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ تتَجشم صوتها وتتشبه بالرجال، هٰذَا مِمَّا لَا شَكَّ فيه لا يُمكن.

الأدهى وأمر من ذَلِكَ في باب الحَركات، فكثيرٌ من النساء يجتهدن أَن يتمثلن بحركات اَلرِّجَال عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ، فَبِفرض أَن هٰذِه الألعاب تجوز المرأة تلعب مُلاكمة تلعب مُصارعة، تجدها تلعب كرة تلعب سلة تلعب طائرة، ما هُوَ الموضوع؟

فَهٰذَا عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ من أعظم الأبواب وَهُوَ أخص بالنساء منها بالرجال؛ أَمَّا تشبه اَلرِّجَال بالنِساء في الحركات هُوَ موجود في بعض اَلرِّجَال نَسأَلُ اللهَ السَّلامَة والعَافِيَةَ.

وعليه: تشبه أحد الجِنسين بالآخر من باب المُحرمات قولًا واحدًا، وقطعًا لَيْسَ المُحرم هنا هُوَ الصغيرة، لِأَنَّ صِّيغَة: «لَيْسَ مِنَّا»، -كَمَا قُلْنَا-: تتضمن ذمًا وتتضمن وعيدًا وتتضمن زَجرًا عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ، وَهٰذَا لا يُناسب الصغيرة بأي وجهٍ من الوجوه.

ثُمَّ إن الصَّغَائِر كما بينتُ آنفًا تُمحى باجتناب الْكَبَائِر وببعض المباني، فما بَقْيَّ إِلَّا أَن يكون التشبه إِمَّا كبيرة وَإِمَّا كُفر؛ ولاريب في أَن التشبه كبيرة من الْكَبَائِر وليس كُفرًا مُخرِجًا من الْمِلَّة عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ.

عزوجل  وَالَّذِي يدل عَلَى ذَلِكَ أمورٌ كثيرة جِدًّا أذكر بعضها عَلَى عُجالة:

أَن التشبه تغييرٌ لخلق الله عزوجل ، والتغيير كبيرةٌ بالاتفاق كما في النامصة، كما في الواشمة، كما في المُتفلجة وغير ذَلِكَ عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ، أخطر ما في التشبه هُوَ الهَديُ الظاهر فَإِن التشبه يُفضي إِلَىٰ التشبه في الهَدي الباطن.

يَعْنِي إذا تشبهت بالصالحين في الظاهر انعطف ذَلِكَ عَلَىٰ قلبك وتجدك بحول الله وقوته تتجه إِلَىٰ الصلاح، لِأَنَّ الاكتفاء بالظاهر نِّفَاق صريح عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ، والضِدُ بالضِد فَإِنْ عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ تَشبه بالمعاصي الظاهرة مِمَّا لَا شَكَّ فيه وَرِث في قلبه نُكت سوداء تُناسب ما جاء بِهِ نَسأَلُ اللهَ السَّلامَة والعَافِيَةَ، فالتشبه بهذا الوصف إشاعةٌ للفاحشة بين الناس عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ.

وكما لا يخفى عليكم: أَن عادة الشَّارِع حسم مادة الفساد وجميع الوسائل الَّتِي تُؤدي إِلَىٰ ذَلِكَ، والوسيلة المذكورة في الحَدِيْث من الوسائل المُباشرة الَّتِي تُؤدي إِلَىٰ الغاية النَكِدة عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ، وحيث إن الفاحشة كبيرة من الْكَبَائِر وأن الوسائل الَّتِي تُؤدي إِلَيْهَا لها أحكام هٰذِه المقاصد، فتعين مِمَّا لَا شَكَّ فيه أَن التشبه كبيرةٌ من الْكَبَائِر.

 

لذلك هٰذَا الحَدِيْث جاء بلفظٍ آخر رواه أحمد عَنْ ابْن مسعود، أَن النَّبِيّ صلى الله عليه و سلم  قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ، وَالْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ»، وبينتُ أَن اللَّعْن هُنا هُوَ اللَّعْن العام لِأَنَّ اللَّعْن نوعان:

| لَعنٌ خاص.

| وَلَعنٌ عَام.

لَعنٌ أي طَردٌ من رحمة الله، فاللَّعْن الخاص أي أَن فُلَانًا لَعنه الله أي ملعون أي طُرِد من رحمة الله عزوجل ، وَالَّذِي طُرِد لا يعود قولًا واحدًا عَلَىٰ تفصيلٍ قَدْ سبق، إِذًاْ من لَعنه الله عينًا إِذًاْ لَا بُدَّ من نَص يُعِين هٰذِه العَين، كمثْلًا إبليس عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ، كأبي جَهل، كأبي لَهب، إِلَىٰ غَيْر ذَلِكَ من الْكُفَّار.

ولكن اللَّعْن العام وجوده عِلْمي، واللَّعْن الخاص وجوده عيني، فالوجد الْعِلْمي ما مَعْنَاه؟ أي مُتوعد أَن يُلعَن ولكن هُوَ لَيْسَ ملعونًا، وَالَّذِي يدلك عَلَىٰ ذَلِكَ أَن كَثِيْرًا ممن ارتكب مثل هٰذِه الحماقات تاب وحَسُنت توبته وكان من الصالحين والله تبارك و تعالى حسيبه.

فتعين أَن صِّيغَة: «لَيْسَ مِنَّا»، مثلها تمامًا كما قَالَ صلى الله عليه و سلم : «لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ»، قَدْ يَقُول القائل وَحُقَ له: مَتَىٰ اختلفت المباني اختلفت المعاني، ما معنى هٰذَا؟ يَعْنِي يَقُول: اللَّعْن مبناه غَيْر لَيْسَ مِنَّا وعليه فَلَا بُدَّ من وجود فروق.

قُلْت: أولًا: أنا لم أتحدث عَنْ الفروق ابتداءً بل تحدثت عَنْ الحُكم، نعم لو قُلْت: ذَهب مُحَمَّد وَقُلْت: راح مُحَمَّد، فالذِهاب نَقلة مِن فَهٰذَا حُكم، ورَاح نَقلة مِن هٰذَا حُكم؛ ولكن رَاح تختلف عَنْ ذَهب، فذَهب تكون مع مَشَقة ورَاح تكون مع غَيْر المَشقة فيها راحة، فكذلك هُنا نحن نَقُول: أَن الحُكم المُترتبَ عَلَىٰ اللَّعْن العام هُوَ نفس الحُكم المُترتب عَلَىٰ لَيْسَ مِنا؛ ولكن مِمَّا لَا شَكَّ فيه تُوجد فروقٌ بينهما.

 

لذلك لَا بُدَّ من بيان بعض هذِه الفروق:

أولًا: لَيْسَ مِنَّا مَحلِها الأعيان صَّحِيْح: «مَنْ غَشنا فَلَيْسَ مِنَّا»، العين هٰذِه ولكن اللَّعْن اللي موجود: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ»، مَحلِها الأذهان إِذًاْ اختلف المَحلُ ابتداءً لاختلاف المَبني، ثُمَّ لَيْسَ مِنَّا صِيغة ذَمْ والوَعيد يَلزمها؛ ولكن اللَّعْن وعيد والذَمْ يلزمه، فَهٰذِه عَكس هٰذِه تمامًا فانتبه لهذا.

فتبين بذلك فساد وبُطلان مذهب الْخَوَارِج والْمُعْتَزِلَة، ومذهب الوعيدية، ومذهب المُرجئة الَّذِينَ يقولون: لَيْسَ مِثلنا، ومذهب عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ المذهب الغَبي مذهب الشِيعة حَيْثُ يَقُولون: لَيْسَ مِن شِيعة علي رضي الله عنه ، وسَلِمَ مذهب أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ.

مِثالٌ ثالث: ألا وَهُوَ: النياحة والنَدب، النياحة طبعًا معروفة وأخص بِالذِّكْر الصُراخ والصويت ومثل هٰذِه الأمور كما سيأتي، أقول أولًا: روى الشَّيْخان عَنْ ابْن مسعود قَالَ: قَالَ صلى الله عليه و سلم : «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ».

وحديثٌ آخر رواه أبو داود عَنْ أبي موسى الأشعري قَالَ: قَالَ صلى الله عليه و سلم : «لَيْسَ مِنَّا مَنْ سَلَقَ، ومن حَلَقَ، ومن خَرَقَ»، مِمَّا لَا شَكَّ فيه هٰذِه النصوص تكاد تكون كالأصل في النِساء يَعْنِي عامة النِساء يفعلون مثل هٰذِه الأفاعيل.

والعَجب: في غَيْر الْمَوْت يَعْنِي في شيءٍ أدنى من الْمَوْت بكثير، ولكن الَّذِي أَعجب من هٰذَا أَنَّهُ وُجِد في هٰذَا العصر من يفعل مثل هٰذِه الأمور من اَلرِّجَال؛ فرأيت من لَطم خَده ومن شق جِلبابه عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ نَسأَلُ اللهَ السَّلامَة والعَافِيَةَ.

قوله صلى الله عليه و سلم : «وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ»، اللي هُوَ المُراد النِياحة كأن المرأة تَقُول: واجبلاه، وسيداه, وصدق صلى الله عليه و سلم : «كُلُّ نَائِحَةٍ تَكْذِبُ إِلَّا أُمَّ سَعْدٍ» رضي الله عنها .

ومعنى سَلق اللِسان من السليقية يَعْنِي يَقُول ألفاظ أو يرفع صوته عند المُصيبة، ومن حَلق أي يحلق رأسه، ومن خَرق أي شَق الجيوب أعني الجِلباب.

 

قُلْت: الْفِقْهياتُ في هٰذَا الحَدِيْث كثيرة جِدًّا جِدًّا؛ فكُل المحظورات السابقة من الْكَبَائِر؛ لأنها تدل عَلَىٰ أمرٍ خطير ألا وَهُوَ التَّسَخُّط وعدم الرضى بالقضاء وعدم الصبر عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ؛ وكُل ما سبق يُغضب الله عزوجل ، وَالَّذِي يُغضب الله مِمَّا لَا شَكَّ فيه بهذه المَنزلة لا يكون إِلَّا كبيرةً.

 عزوجل وَالَّذِي يُؤكد أَن المحظورات السابقة من الْكَبَائِر جَمهرة من النصوص أذكر واحدةً أو ثِنتين:

حديثٌ رواه أحمد عَنْ أبي مالكٍ الأشعري رضي الله عنه  قَالَ: قَالَ صلى الله عليه و سلم : «أربعٌ باقين في أُمتي»، يَعْنِي أربع صِّفَات هتفضل في الأُمَّة انظر: «باقين في أُمتي من أمر الجاهلية»، أي أَن هٰذِه الْأَشْيَاء مُتأصلة في الجاهلية: «ليسوا بتاركيها»، أيُعقل أَن تَقُول بعد هٰذِه اللَّفْظ: أنهم كُفار؟

قَالَ: «الْفَخْرُ بالأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَىٰ الميت»، ثُمَّ أردف صلى الله عليه و سلم  فَقَالَ: «وَإن النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ المَوْتْ جاءت يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ لَهب النَّار».

فَهٰذَا النَّصّ يُبين أَن النَّائِحَة تعمل عَمل أهل الْجَاهِلِيَّة، وَهٰذَا لا يُناسب الصغيرة بحال ولا الْكُفْر وَذَلِكَ بِالنَّصِّ والإجماع فتعين أَنَّهُ كبيرةٌ من الْكَبَائِر، وَالَّذِي يُؤكد ذَلِكَ شِدة الوعيد الَّذِي ذُكِر في حق النَّائِحَة عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ، فَهٰذَا لا يُناسب الصغيرة أبدًا إِنَّمَا هُوَ إِمَّا للْكُفْر وَإِمَّا للكبيرة، والإجماع مُنعقدٌ عَلَىٰ أَن مثل هٰذِه الأمور لَيْسَ كُفرًا فتعين أَنَّهُ كبيرةٌ من الْكَبَائِر.

بعض الأَحَادِيْثِ كما ذَكرتُ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشبَّه مِن اَلرِّجَال»، ثُمَّ جاء حديث: «لَعَنَ اللَّهُ من تشبه من اَلرِّجَال»، وَجدت أَن الحَدِيْث: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ سَلَقَ، ومن حَلَقَ، ومن خَرَقَ»، وجدته بهذا اللَّفْظ أَيْضًا عَنْ أبي موسى قَالَ صلى الله عليه و سلم : «أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ حَلَقَ وَسَلَقَ وَخَرَقَ».

وعَلَيْهِ: لَيْسَ مِنَّا هِيَ بعينها أَنَا بَرِيءٌ، قَدْ يَقُول القائل: النَّبِيّ قَالَ اللَّفْظين؟ قُلْت: هٰذَا احتمال، قَدْ يَقُول القائل: هل هٰذَا من تصرف الصَّحَابَي؟ قُلْت: احتمال ومن أعلم منهم بلُّغَة الْعَرَب؟ فَإِن تصرف في لفظٍ كان ضابطًا لمعناه قولًا واحدًا.

بل حقيقة الأمر: أَنَا بَرِيءٌ ممن كذا، مثل: «أَنَا بَرِيءٌ ممن أقام بين ظهراني الْمُشْرِكِين بعدما أسلم»، يَعْنِي هُوَ كافر؟ هٰذَا يستحيل لِأَنَّ لفظ البراءة هُوَ الانفصال عَنْ بعض الشيء لا عَنْ جميع الشيء.

وأنا أُؤكد لك هٰذَا الْمَعْنَى قَالَ صلى الله عليه و سلم : «اللَّهُمَّ إني أبرء إليك مِمَّا فَعل خالد»، نعم فنَبِيِّنَا تبرأ من خالد في هٰذِه الْفِعْلة، أيقول عاقل: أَنَّهُ انفصل انفصالًا عَنْ جميع مِلَّة خالد، ويكون بذلك خالد رضي الله عنه  من الْكَافِرِين؟ لا ينطق ذَلِكَ من يدري الْعِلْم.

ولكن الْكُفْر عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ انفصالٌ من جميع الشيء، فتعين أَن قوله: «أَنَا بَرِيءٌ»، سواء قِيلَ: أَنَّهُ نَبِيِّنَا قَالَ اللَّفْظين أو أَن هٰذَا تصرف بعض الصَّحَابَة فَهٰذَا لا يضرنا في شيءٍ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَىٰ.

مَسْأَلَةٌ أخرى: مَسْأَلَة الرماية والحديث عند مُسْلِم رحمه الله  عَنْ عُقبة بْنَ عامر، قَالَ صلى الله عليه و سلم : «مَنْ عَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا»، الرَّمْيَ اللي هُوَ نُسميه في اللغة العامة النَشان، سواءً بقا كان بِرُمح سواء بغير ذَلِكَ فمن تَعلم هٰذَا الرَّمْيَ لا يحل له أَن يتركه وأن يهجره؛ بل نَبِيِّنَا صلى الله عليه و سلم  جعله من أنواع اللَعِب المُباح.

فقوله: «ثُمَّ تَرَكَهُ»، قُلْت قطعًا: لغير عارض ما معنى لغير عارض؟ قَدْ يكون بسبب العَجز مثْلًا، وَقَدْ يكون بسبب كِبر السِنْ فَالنَّصُّ لم يتعرض لذلك، إِنَّمَا النَّصّ يتعرض يَقُول: «ثُمَّ تَرَكَهُ»، إِذًاْ هُوَ قادرٌ عَلَىٰ الْفِعْل ولم يفعله فَحِيْنَئِذٍ نَقُول: «فَلَيْسَ مِنَّا».

أنتم تعلمون عِلْم اليقين: أَن الجِهاد ذروة سنام الإِسْلَامِ، وأنتم تعلمون: أَنَّهُ لا جِهاد بغير أصل: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ 60﴾ [الأنفال: 60]، قَالَ صلى الله عليه و سلم : «ألا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيَ، ألا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيَ، ألا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيَ».

فسلاح الرَّمْيَ سلاحٌ ناجع في صَد العدو بل والقضاء عَلَيْهِ؛ فكما أَن الجِهاد ذروة سنام الْإِسْلَام ولا جِهاد بغير رَمي فَالرَّمْيَ هُوَ العمود الفِقري في شعيرة الجِهاد؛ لذلك كما قُلْت لكم: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ 60﴾ [الأنفال: 60]، وَنَبِيِّنَا فسر القوة هنا فقَالَ: «ألا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيَ، ألا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيَ، ألا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيَ»، الحَدِيْث رواه أحمد ومُسْلِم عَنْ عُقبة بْنَ عامر.

هُنا وقفة: لَيْسَ معنى الْكَلَام أَن الْقُوَّةَ هِيَ الرَّمْيَ وَفَقَطْ؟ لا، معنى الْكَلَام أَن الرَّمْيَ هُوَ الرُكن الرَكين، وَهٰذَا لا ينفي أَن هناك أركانًا أخرى فالذاتُ لها أركان مُتعددة؛ ولكن في الحقيقة أَن الأركان نوعان:

| رُكنٌ مَتَىٰ زال سقطت الماهية وانتفت قولًا واحدًا.

| وَرُكنٌ مَتَىٰ زال عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ اهتزت اهتزازًا يكاد يُسقطها.

فَمِمَّا لَا شَكَّ فيه الرَّمْيُ هُوَ الرُكن الرَكين مَتَىٰ زال فلا جِهاد فلا قِتال، وَقَدْ يسقط أَن تسقط طُرقٌ أخرى فتهز شعيرة الجِهاد ولكن كما قنا آنفًا.

وعليه: من ترك الرَّمْيَ لغير عُذرٍ بعدما تعلمه، إِذًاْ عندنا شرطين:

|تَعلم.

|ثُمَّ تركه لغير عُذر.

فقد أشعر بتركه للجِهاد وَهٰذَا يُضعف شوكة الْمُسْلِمِينَ، وَهٰذَا من أعظم المُحرمات عِيَاذًا بِاللهِ ولا يُناسب إِلَّا الكبيرة، لأنكم تعلمون أَن الفِرار من الزَحف أصلًا كبيرةٌ من الْكَبَائِر بِالنَّصِّ وليس كُفرًا، فكيف من ترك تعلم شيء قَدْ تَعلمه أو مُمارسة شيء قَدْ تَعلمه؟ كَذَلِكَ لِأَنَّ الوسائل كما لا يخفى عليكم لها أحكام المقاصد لا سيما إذا كانت الوسَيلةُ وسَيلةً مُباشرة لتحقيق الغاية.

 

ولكن في الحقيقة وقفت عَلَىٰ كلام النَووي رحمه الله  في شرح (صَّحِيْح مُسْلِم) المُجلد الْثَّالِث عَشر الصفحة الخَامِسة والستون قَالَ ما نصه: "هَذَا تَشْدِيدٌ عَظِيمٌ فِي نِسْيَانِ الرَّمْيِ بَعْدَ عِلْمِهِ؛ وَهُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً لِمَنْ تركه بلا عُذر"، ولا أدري من أين جاء بكلمة الكراهة هٰذِه؟

والمكروه كراهة عند الشَّافِعِيّة لَيْسَ هُوَ المُحرَم هُوَ دُون المُحرَم، وأعني قطعًا الكراهة الاصطلاحية لِأَنَّ الشَّافِعِيّ رحمه الله  إذا قَالَ: أكره كذا فهو يستخدم لفظ الْقُرْآن وَالسُّنَّة، يَعْنِي لو قَالَ: أكره كذا فأول ما يتبادر إِلَىٰ الذِهِن في أصول الشَّافِعِيّ: أَنَّهُ يقصد أنها مُحرَمة.

اللي لا يفهم هٰذِه عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ قَالَ كلامًا لا يَنْبَغِي، كمثْلًا لما سُئل الشَّافِعِيّ رحمه الله : أللرجل أَن يتزوج بنته من الزِنا؟ قَالَ: "أكره ذَلِكَ"، ومرةً قَالَ: "لا يُعجبني ذَلِكَ"، فظن المِسكين أَنَّهُ يُبيحها وَهٰذَا جهل بـأصوله عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ، فَلَا بُدَّ وأن يُنتبه لمثل هٰذَا الْكَلَام.

قُلْت: لفظ الكراهة هُنا الَّذِي ساقه النووي رحمه الله  لا يتناسب أصلًا مع قوله: "تَشْدِيدٌ عَظِيم"، لِأَنَّ قَالَ: "هٰذَا تَشْدِيدٌ عَظِيم"، فكيف تتناسب الكراهة مع قوله: تَشْدِيدٌ عَظِيم؟ لِأَنَّ الْمَعْنَى الاصطلاحي للكراهة يقتضي عدم الإثم مع تعمد الْفِعْل.

ثانيًا: أَن لفظ: «لَيْسَ مِنَّا»، تضمن كما سبق ذمًا ووعيدًا وزَجرًا، والوعيد أصلًا لا يتناسب مع فِعْل المكروه، كَذَلِكَ العجب أَن لفظ: «لَيْسَ مِنَّا»، في هٰذَا الحَدِيْث جاء عند ابْن ماجة: «مَنْ عَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَقد عصاني»، هل قوله: «فقَدْ عصاني» يتناسب مع الكراهة وإن قيلت أو وُصفِت بأنها كراهة شديدة جِدًّا جِدًّا؟ مِمَّا لَا شَكَّ فيه هٰذَا لا يُمكن أبدًا.

وعليه: فقوله: «فَقد عصاني»، هُوَ قوله: «فلَيْسَ مِنّي»، فَإِن قُلْت: المباني مُختلفة؟ قُلْت: أنا أبحثُ في الحُكم المُترتب لَيْسَ مِنَّا حُكمها أَنَّهُ ارتكب كبيرة، قَدْ عصاني أَنَّهُ ارتكب كبيرة؛ أَمَّا لو بحثت في الفروق بينهما فَمِمَّا لَا شَكَّ فيه يوجد فروقٌ بينهما كما بينتُ ذَلِكَ في مِثالٍ سابق.

فَتَبين أَن مذهب الْخَوَارِج مذهبٌ باطل في هٰذِه الْمَسْأَلَة، وعَلَىٰ إثرهم الْمُعْتَزِلَة، وعَلَىٰ إثرهم الوعيدية عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ وَهُوَ مذهب خبيث يُفضي إِلَىٰ إلغاء كُل وعيد لله عزوجل  حَتَّىٰ تُلغى حقيقة النَّار، وكذلك عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ مذهب المُرجئة، وكذلك المذهب الغَبي الَّذِي يُسمى بمذهب الشِيعة.

وَسَلِمَ مذهب أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ: أَن كُل ما ذُكِر آنفًا هُوَ كبيرةٌ من الْكَبَائِر، وأُؤكد أَنَّهُ من مات ولم يتب منها وكان مُتلبسًا بها هُوَ مُسْلِمٌ عاص عَلَىٰ تفصيلٍ قَدْ سبق.

أكتفي بهذا القَدر وَصَلَّىٰ اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَىٰ نبينا مُحَمَّد، وجزاكم اللهُ خيرًا والسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاتهْ فيه أسئلة؟.

الطالب: أحسن الله إليكم شَّيْخنا: عند ذكرك أبي طالب قُلْت: رضي الله عنه  وَأَرْضَاهُ؟

الشَّيْخ: هٰذَا خطأ لو كُنت ذكرته هٰذَا خطأ مني أبو طالب كافر مِمَّا لَا شَكَّ فيه، دَعك من كلام عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ من لا نصيب له في الْعِلْم ويَزعم بِأَنَّهُ مُسْلِمٌ أو كما يقولون الحَدِيْث الموضوع جابر: "أنا الله أحياه له، أو أحيى أُمه وأباه"، كُل هٰذَا الْكَلَام لا عِلاقة له بالْعِلْم لا من قريبٍ ولا من بعيد، وَهٰذَا خطأٌ مني اعتذر عنه.

الطالب: جزاكم اللهُ خيرًا يا شَّيْخنا وشكر لكم.

الشَّيْخ: جزاكم اللهُ خيرًا، السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاتهْ.