مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه208
مسند احمد
حدثنا إبراهيم بن إسحاق، حدثنا ابن مبارك، عن سعيد بن عبد العزيز، عن عطية بن قيس، عن قزعة، عن أبي سعيد الخدري، قال: " لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح مر الظهران، آذننا بلقاء العدو فأمرنا بالفطر فأفطرنا أجمعون " (2)
الجِهادُ والغَزوُ مِنَ المَواطنِ الَّتي يُطلَبُ فيها كلُّ مَعاني الصِّحَّةِ والقوَّةِ، وخاصَّةً عندَ لِقاءِ العَدوِّ، ولقدْ رُخِّصَ للمُسافرِ أنْ يُفطِرَ؛ ليَتقوَّى به على سَفرِه، والفِطرُ أوْلى أثْناءَ الجِهادِ؛ لِما يَحتاجُ مِن مَزيدِ قوَّةٍ.
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خرَجَ عامَ الفَتْحِ سنةَ ثمانٍ منَ الهِجرةِ مِنَ المدينةِ، قاصدًا فَتحَ مَكَّةَ في شَهرِ رَمَضانَ، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والجيشُ الَّذي معَه صائمينَ، حتَّى وصَلَ إلى «كُرَاعِ الغَمِيمِ»، وهو اسمُ مَوضِعٍ بيْنَ مَكَّةَ والمدينةِ، والغَمِيمُ: وادٍ أمامَ عُسْفَانَ بثَمانيةِ أمْيالٍ (حوالَيْ: 13 كيلومترًا)، ويَبعُدُ 64 كيلومترًا مِن مَكَّةَ على طَريقِ المَدِينةِ، ويُعرَفُ اليومَ ببَرْقاءِ الغَميمِ، والكُرَاعُ: جَبَلٌ أسْوَدُ مُتَّصِلٌ به.
فلمَّا وصَلَ إليه دَعا بِقَدَحٍ مِن ماءٍ، فرَفَعَه إلى فيهِ، حتَّى نظَرَ النَّاسُ إليه، وفي رِوايةٍ: «فقِيلَ له: إنَّ النَّاسَ قد شَقَّ عليهمُ الصِّيامُ، وإنَّما يَنظُرونَ فيما فعَلْتَ» من صيامٍ أو فِطرٍ، «فدَعَا بقَدَحٍ من ماءٍ بعدَ العَصْرِ»، وهذه الرِّوايةُ فيها تَوْضيحُ أنَّ الصِّيامَ قدْ أنْهَكَ النَّاسَ، وأنَّهم يَنتظِرونَ أمْرَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في هذه المسألةِ، فدَعَا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالماءِ بعدَ العَصرِ وشَرِبَ؛ لِيُتابِعَه النَّاسُ في الإفْطارِ ويَقْتَدُوا به، وقد أرادَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الرِّفْقَ بهم والتَّيسِيرَ عليهم، أخْذًا بقولِه تعالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، فأَخبَرَ تعالَى أنَّ الإفْطارَ في السَّفَرِ أرادَ به التَّيسيرَ على عِبادِه.
فأُخْبِرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعدَ ذلك: أنَّ بعضَ النَّاسِ قدْ صامَ، فقال: «أُولَئِكَ العُصاةُ، أُولَئِكَ العُصَاةُ»؛ لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا أمَرَ أمرًا فيَجِبُ امتِثالُه، وهو تارةً يَأمُرُ بِمَقالِه، وتارةً يَأمُرُ بفِعالِه، فلمَّا أفْطَرَ كان أمْرًا بلِسانِ الحالِ قاصدًا بذلك الرُّخْصةَ؛ لِيَقْوَى بالفِطرِ على ما نهَضَ له مِنَ الجِهادِ، فلمَّا رَغِبَ هؤلاءِ عن فِعلِه كانوا على غَايةِ الغَلَطِ؛ لأنَّهم إنْ ظَنُّوا أنَّ صَومَهم أفضَلُ مِن فِطْرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فكَفَى بهذا خطأً ونُقصانَ فَهْمٍ، وإنْ كانوا لم يَعْلَمُوا أنَّ فِطرَهم أقْوَى لهم على الجِهادِ، فهو سُوءُ فَهْمٍ؛ فلذلك سُمُّوا عُصَاةً مِن حيثُ إنَّ فِعلَهم ذلك تَجاوَزُوا فيه الشَّرْعَ ولم يَلِينُوا لِقَبولِه، وكرَّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قولَه: «أُولَئِكَ العُصَاةُ» للتَّأكيدِ.
وفي الحَديثِ: الغَزوُ في رَمضانَ، ومَشْروعيَّةُ الفِطرِ في نَهارِه؛ لئِلَّا يَضعُفَ الجيشُ عنِ الحَربِ.
وفيه: تَمامُ رَحمةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأُمَّتِه وشَفَقَتِه عليهم.
وفيه: ضَرورةُ اتِّباعِ أوامِرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّ مَن خالَفَه بأيِّ تَصوُّرٍ يكونُ عاصِيًا.
وفيه: سَماحةُ الشَّريعةِ، وسُهولةُ تَكاليفِها، حيثُ أباحَتِ الفِطرَ للمُسافِرِ.
وفيه: جَوازُ الفِطرِ أثْناءَ النَّهارِ لمَن باتَ ناويًا للصومِ إذا عرَضَ له عارضٌ.