مسند أبي هريرة رضي الله عنه 861
مسند احمد
حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن يوحنس، عن أبي عبد الله القراظ، أنه قال: أشهد الثلاث على أبي هريرة، أنه قال: قال أبو القاسم: «من أراد أهل البلدة بسوء - يعني أهل المدينة - أذابه الله كما يذوب [ص:453] الملح في الماء»
خَصَّ اللهُ سُبحانه وتَعالى بعضَ بِقاعِ الأرضِ بِبَركاتٍ لم يَجعَلْها في غَيرِها، وقد نالتِ المدينةُ النَّبويَّةُ حظًّا وافرًا مِن البَركةِ؛ بسَببِ دُعاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِلمدينةِ وأهْلِها
كما في هذا الحديثِ؛ حيثُ قال: "اللَّهُمَّ بارِكْ لِأهْلِ المدينةِ في مَدينتِهم"، أي: اجْعَلْها مَحلًّا لِلخَيرِ والنَّماءِ، وهي مَدينةُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقد دعا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يَجعَلَ اللهُ فيها ضِعْفَيْ ما في مكَّةَ مِن البَرَكةِ، وأنْ يَطرُدَ اللهُ منها الوَباءَ والمرَضَ، "وبارِكْ لهم في صاعِهِم، وبارِكْ لهم في مُدِّهم"، أي: بارِكْ في الطَّعامِ الَّذي يُكالُ بهما، ويَحتمِلُ أنَّ الدُّعاءَ كان بأنْ تَحصُلَ البَرَكةُ في نفْسِ المَكيلِ، بحيث يَكْفي المُدُّ فيها مَن لا يَكْفِيه في غَيرِها، أو يكون المُرادُ زِيادةَ البرَكةِ في المدينةِ وفي كلِّ ما فيها ممَّا يُكالُ مِن الأطعمةِ وغيرِها، ولا تَقتصِرُ البَرَكةُ على المَكاييلِ فقطْ، بلْ تَشمَلُ كلَّ المَوازينِ والمَعْدوداتِ أيضًا؛ فهي بَرَكةٌ عامَّةٌ، وهذا أمْرٌ مَحسوسٌ عِنْدَ مَن سَكَنَها، وهو مِن إجابةِ دَعوةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وصَاعُ المَدينةِ: هو كَيلٌ يَسَعُ أربعةَ أمْدادٍ، والمُدُّ: رِطْلٌ وثُلُثٌ عندَ أهلِ الحِجازِ، ورِطلانِ في غيرِها، والمُدُّ: أربعُ حَفَناتٍ بِكَفَّيِ الرَّجُلِ الذي ليس بعَظيمِ الكفَّينِ ولا بصَغيرِهما، وفي تَقديرِ المُدِّ والصَّاعِ خِلافٌ؛ فالْمُدُّ يُساوي الآنَ تقريبًا 509 جِرامًا في أقلِّ تَقديرٍ، و1072 جِرامًا في أعلى تَقْديرٍ، أمَّا الصَّاعُ فيُساوي بالجرامِ 2036 جِرامًا في أقلِّ تَقْديرٍ، وفي أعلى تَقديرٍ يُساوي 4288 جِرامًا
ثم قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "اللَّهُمَّ إنَّ إبراهيمَ عبْدُك وخَليلُك"، أي: شَديدُ المَحبَّةِ لك التي تَخلَّلتِ القلبُ فملأتْه، "وإنِّي عبْدُك ورَسولُك"، ولم يذكُرِ الخُلَّةَ لنَفْسِه مع أنَّه أيضًا خليلُ اللهِ تعالى؛ رعايةً للأدبِ في ترْكِ المُساواةِ بيْن نفْسِه وبيْن آبائِه وأجدادِه الكِرامِ، وفيه أيضًا تنبيهٌ على تنويهِه وجلالةِ شأنِه، وأنَّه أرفعُ درجةً وأعظمُ قدرًا، "وإنَّ إبراهيمَ سأَلَك لِأهْلِ مكَّةَ"، يَعني: دعاكَ بقَولِه: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]، "وإنِّي أسْأَلُك لِأهلِ المدينةِ"، أي: أخُصُّهم بدُعاءٍ، "كما سأَلَكَ إبراهيمُ لِأهْلِ مكَّةَ، ومِثلَه معه"، يَعني: أسألُك أنْ يكونَ فيها ضِعفُ ما دَعا به إبراهيمُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وفي صحيحِ البخاريِّ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "اللهمَّ اجعلْ بالمدينةِ ضِعْفَيْ ما جعلتَ بمَكَّةَ مِنَ البَركةِ"، ومَن سكَن المدينةَ يعرِف ما فيها من البَركةِ في طعامِها وشرابِها، وما يحصُلُ لأهلِها من الكفايةِ بالقليلِ، ولا سيَّما في حقِّ أهلِ الإيمانِ والتقوَى
ثُم قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إنَّ المَدينةَ مُشبَّكةٌ بالملائكةِ"، أي: مُمتلِئةٌ ومُحاطةٌ بها، "على كلِّ نَقْبٍ منها مَلَكانِ يَحْرُسانِها" فعلى على كلِّ طَريقٍ أو بابٍ مَلائكةٌ يَحْفَظونها مِن الآفاتِ والبَلِيَّاتِ، "لا يَدخُلُها الطَّاعونُ" وهو الوباءُ العامُّ، "ولا الدَّجَّالُ"، أي: الكذَّابُ الذي يَخرُجُ آخِرَ الزَّمانِ، وهو مِن العَلاماتِ الكُبْرى لِيَومِ القِيامةِ، وهو أعظمُ فِتنةٍ على ظَهرِ الأرضِ، "مَن أرادَها بسُوءٍ"، أي: من أراد أنْ يُوقِعَ بالمدينةِ شَرًّا، "أذابَهُ اللهُ كما يَذوبُ المِلْحُ في الماءِ" فعاقِبتُه الهَلاكُ، وذَلك في الآخِرةِ. وَقيل: قد يَكونُ المُرادُ به: مَن أَرادَها في حَياةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كُفِيَ المُسلمونَ أمْرَه، واضْمحَلَّ كَيدُه كَما يَضمحِلُّ المِلحُ في الماءِ. وقيل: قدْ يَكونُ في اللَّفظِ تَأخيرٌ وتَقديمٌ، أي: أَذابَهُ اللهُ ذَوْبَ المِلحِ في الماءِ، وَيكونُ ذَلك لِمَن أَرادَها في الدُّنيا، فَلا يُمهِلُه اللهُ، وَلا يُمكِّنُ له سُلطانًا، بل يُذْهِبُه عن قُرْبٍ
وفي الحديثِ: بَيانُ مَكانةِ المدينةِ عِندَ اللهِ سُبحانَه وحِفْظِه لَها من الفِتَنِ والسُّوءِ
وفيه: بَيانُ ما كانَ عليهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن مَكارمِ الأَخلاقِ وحُبِّه لِلمدينةِ وأهْلِها