‌‌مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه1601

مسند احمد

‌‌مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه1601

حدثنا حسين، في تفسير شيبان، عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان في بعض أسفاره ورديفه معاذ بن جبل، ليس بينهما غير آخرة الرحل، إذ قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: " يا معاذ بن جبل " قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة، ثم قال: " يا معاذ بن جبل " قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة، فقال: " يا معاذ بن جبل " قال: لبيك يا رسول الله وسعديك (1) ، قال: " هل تدري ما حق الله على العباد؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال: " فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا "، قال: " فهل تدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال: " فإن حقهم على الله أن لا يعذبهم " (2)

الطريقُ لنجاةِ العَبدِ في الدُّنيا والآخرةِ يبدَأُ وينتهي بإفرادِ اللهِ عزَّ وجَلَّ بالعبادةِ وَحْدَه، ونَبْذِ وتَرْكِ كُلِّ ما سواه عزَّ وجَلَّ في عُلاه.

وفي هذا الحَديثِ ان كان رَدِيفَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا، والرَّدِيفُ: هو الرَّاكبُ خلْفَ الرَّاكبِ بإذنِه، وهذا مِن تَواضُعِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّ إردافَ الإمامِ والشَّريفِ لمَن هو دُونَه ورُكوبَه معه: مِنَ التَّواضُعِ وتَرْكِ التَّكبُّرِ، وفي روايةٍ أُخرى في الصَّحيحَين بيَّنَت أنَّهم كانوا على حماٍر، وكان اسمُه عفيرًا، ويذكُرُ مُعاذٌ رضِيَ اللهُ عنه أنَّه لم يكُنْ بينه وبين النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا آخِرَةُ الرَّحْلِ، والرَّحْلُ للبَعِير كالسَّرْجِ للفَرَس، وآخِرَتُه: هي العُودُ الذي يُجعَلُ خلْفَ الرَّاكِبِ يَستَنِدُ إليه، وفائدةُ ذِكرِه المُبالَغةُ في شِدَّةِ قُربِه؛ ليكونَ أوقعَ في نفْسِ سامِعِه أنَّه ضَبَط ما رواهُ. فَنادى عليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يا مُعَاذُ» ثَلاثَ مرَّاتٍ، وفي كلِّ مَرَّةٍ يَرُدُّ مُعَاذٌ رضِي اللهُ عنه عليه: «لَبَّيْكَ رَسولَ اللَّهِ وسَعْدَيْكَ»، أي: أُجِيبكَ يا رَسولَ اللهِ إجابةً لكَ بعْدَ إجابةٍ، أَوْ أَقمْتُ على طاعَتِكَ إقامَةً بعْدَ إقامةٍ، وطَلَبتُ السَّعادةَ لإجابَتِكَ في كلِّ مرَّةٍ في الأُولَى والآخِرةِ، وهذا يَعني أنَّه مُجيبٌ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومُؤكِّدٌ له على حُسنِ طاعتِه فيما يَأمُرُ بهِ، فلمَّا أحسَنَ مُعاذٌ رَضيَ اللهُ عنه الإجابةَ وأصْغى السَّمعَ، سَأَله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائلًا: «هلْ تَدْرِي ما حَقُّ اللَّهِ علَى عِبَادِهِ؟» أي: هلْ تَعلَمُ ما يَجِبُ للهِ على عِبادِه، وما يَستحِقُّه منهم؟ فقال مُعاذٌ: «اللهُ ورسولُه أعلَمُ»، وهذا مِن حُسنِ الأدبِ، وعدَمِ التَّقدُّمِ على اللهِ ورَسولِه، فبَيَّنَ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ حَقَّ اللهِ على عِبادِه: أنْ يَعبُدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا. والمُرادُ بالعِبادةِ: عمَلُ الطَّاعاتِ واجتِنابُ المعاصِي، وهي اسمٌ جامعٌ لكُلِّ ما يُحبُّه اللهُ ويَرضاهُ مِن الأقوالِ والأفعالِ. وعطَفَ على العِبادةِ عدَمَ الشِّركِ بِه سُبحانَه؛ لأنَّه تَمامُ التَّوحيدِ.

وقيل: الحِكمةُ في ذلِك: أنَّ بعضَ الكفَرةِ كانوا يَدَّعون أنَّهم يَعبُدون اللهَ، ولَكِنَّهم كانوا يَعبُدون معه آلهةً أُخرَى، فاشتُرِطَ نَفْيُ ذلك، وأنْ تكونَ عِبادتُهم للهِ وحْدَه؛ لأنَّه تعالَى هو الخالِقُ الرَّزَّاقُ، النَّافعُ، الدَّافعُ عن عِبادِه الآفاتِ والمُؤذِياتِ، فإذا كان كذلك وجَبَ عليهم أنْ يُوَحِّدوه ويُخْلِصوا له الطَّاعةَ دونَ مَن سِواه؛ فهذا هو حقُّ اللهِ تعالَى على عِبادِه. وسار صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُدَّةً من الزَّمَنِ، ثُمَّ قالَ: يا مُعَاذُ بنَ جَبَلٍ، فقال مُعاذٌ رضِيَ اللهُ عنه بأَدَبِه الجُمِّ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَبَّيْكَ رَسولَ اللَّهِ وسَعْدَيْكَ»، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «هلْ تَدْرِي ما حَقُّ العِبَادِ علَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوهُ؟» أي: أيُّ شَيءٍ حَقيقٌ وجَديرٌ ولائقٌ أنْ يَفعَلَ اللهُ تعالَى بعِبادِه إنْ هُم أدَّوْا حقَّه؟ فقال معاذٌ رضِيَ اللهُ عنه: «اللهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ»، ففوَّض العِلمَ لله ورسولِه كما فعل قبل ذلك، فذكَرَ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ حَقَّ العِبادِ على اللهِ إذا فَعَلوا ذلك: ألَّا يُعذِّبَهم. ويَستلزِمُ ذلك حُصولَ ما وعَدَهم به مِنَ الثَّوابِ والجَزاءِ، وهذا بشَرْطِ الإتيانِ بأَوامِرِه، والانتِهاءِ عن مَناهِيه؛ فإنَّ كلَّ ذلك مِن عِبادتِه، وقدْ حَقَّ ذلك الجَزاءُ ووجَبَ بحُكمِ وعْدِ اللهِ الصِّدقِ، وقَولِه الحقِّ الَّذي لا يَجوزُ عليه الكذِبُ في الخبرِ، ولا الخُلفُ في الوَعدِ؛ فاللهُ سُبحانَه وتعالَى لا يَجِبُ عليه شَيءٌ بحُكمِ الأمْرِ؛ إذ لا آمِرَ فَوْقَه سُبحانه.

وفي الحَديثِ: تَكرارُ المُعلِّمِ أو الواعِظِ النِّداءَ؛ لتأكيدِ الاهتمامِ بما يُخبِرُ به، وليَكْمُلَ تَنبُّهُ المُتعلِّم فيما يَسمَعُه.

وفيه: أنَّ مَن ماتَ على التَّوحيدِ دخَلَ الجنَّةَ قطْعًا.

وفيه: مَنزلةُ مُعاذِ بنِ جَبلٍ رَضيَ اللهُ عنه، وأدَبُه مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقُربُه منه.