مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه423
مسند احمد
حدثنا هاشم، حدثنا سليمان، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: لما نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} [الحجرات: 2] إلى قوله {وأنتم لا تشعرون} [الزمر: 55] ، وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت، فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حبط عملي، أنا من أهل النار، وجلس في أهله حزينا، فتفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بعض القوم إليه، فقالوا له: تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك؟ فقال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي، وأجهر بالقول حبط عملي، وأنا من أهل النار، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبروه بما قال، فقال: " لا، بل هو من أهل الجنة " قال أنس: " وكنا نراه يمشي بين أظهرنا، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة، فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف، فجاء ثابت بن قيس بن شماس، وقد تحنط ولبس كفنه، فقالبئسما تعودون أقرانكم، فقاتلهم حتى قتل " (1)
كان أصْحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقِفونَ عندَ حُدودِ اللهِ تَعالى، ودائمًا ما يُراقِبونَ أنفُسَهم ويُحاسِبونَها.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ أنَسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لَمَّا نَزَلَ قَولُه تعالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2]، وكان ثابتُ بنُ قَيسٍ رَضيَ اللهُ عنه رَفيعَ الصَّوتِ جَهْوَريًّا؛ وذلك لأنَّه كان خَطيبًا مُفوَّهًا، وكان خَطيبَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقد كان يُنِيبُه عنه في بَعضِ الخُطَبِ، وخاصَّةً عندَ قُدومِ الوُفودِ إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلمَّا نزَلَت هذه الآيةُ ظنَّ ثابتُ بنُ قيسٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه هو المَقصودُ بالآيةِ، وأنَّ عمَلَه قدْ حَبِطَ، يَعني: بطَلَ، وأنَّه أصبَح مَحكومًا عليه بدُخولِ النَّارِ في الآخِرةِ؛ وذلك لأنَّ صَوتَه كان مُرتفِعًا خِلْقةً، فظنَّ أنَّه المَقصودُ بالوَعيدِ في الآيةِ، فجلَسَ في بَيتِه حَزينًا لهذا الأمرِ، فلمَّا افتَقَدَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ولم يَرَه على عادتِه، سَأَلَ عنه، فجاء رجُلٌ مِن أصْحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى ثابتِ بنِ قَيسٍ رَضيَ اللهُ عنه وأخبَرَه بسُؤالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عنه، وسَألَه عن سبَبِ غِيابِه عن مَجلِسِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأخبَرَ بما فَهِمَه مِن الآيةِ، وأنَّه يَخافُ أنْ يكونَ هو المَقصودَ بهذا الوَعيدِ، فرَجَع الرَّجلُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأخبَرَه بذلك، فأمَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَرجِعَ إلى ثابتِ بنِ قَيسٍ ويُبلِّغَه بِشارةً عَظيمةً، وهي أنَّه ليس مِن أهلِ النَّارِ، بلْ مِن أهلِ الجَنَّةِ.
ثمَّ أخبَرَ أنَسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ أصْحابَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانوا يرَوْنَ ثابتَ بنَ قَيسٍ رَضيَ اللهُ عنه يَمْشي بيْنَهم وهمْ يَعلَمونَ أنَّه مِن أهلِ الجنَّةِ حقًّا؛ تَصْديقًا لبُشْرى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ له، فلمَّا كان يومُ اليمامةِ، وهي بَلدةٌ مِن بِلادِ العَوالي، وهي بِلادُ بَني حَنيفةَ، قيلَ: مِن عَروضِ اليَمَنِ، وقيلَ: مِن باديةِ الحِجازِ، وتَتبَعُ مَدينةَ الرِّياضِ حاليًّا، ويومُ اليمامةِ كان في السَّنةِ الحاديةَ عَشْرةَ مِن الهِجرةِ في عَهدِ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضيَ اللهُ عنه، وكان القائدُ فيها خالدَ بنَ الوَليدِ رَضيَ اللهُ عنه، وهو يومُ قِتالِ المُرتَدِّينَ مِن بَني حَنيفةَ الَّذين ارتَدُّوا عنِ الإسْلامِ معَ مُسَيلِمةَ الكذَّابِ، وكان ثابتُ بنُ قَيسٍ رَضيَ اللهُ عنه مع المُسلِمينَ في هذه المَعركةِ، وقدِ اشتَدَّ القِتالُ، وثبَتَ بَنو حَنيفةَ أمامَ المُسلِمينَ، حتَّى انكشَفَ بعضُ الجَيشِ المُسلِمِ أمامَهم وتَراجَعوا، فأقبَلَ ثابتُ بنُ قَيسٍ رَضيَ اللهُ عنه وقدْ تكفَّنَ بكَفَنِ الموتِ، وتحنَّطَ بعِطرِ المَوْتى، وقال لأصْحابِه مِن المُسلِمينَ الَّذين تَراجَعوا أمامَ المُرتَدِّينَ: «بِئسَما عوَّدْتم أقْرانَكم»، يَقصِدُ أنْ يَذُمَّهم على فِرارِهم أمامَ المُرتَدِّينَ، ويَخافُ أنْ يَعْتادوا على ذلك، ثمَّ قاتَلَ ثابتٌ رَضيَ اللهُ عنه المُشرِكينَ، وثَبَت أمامَهم حتَّى يكونَ قُدوةً للمُسلِمينَ في الثَّباتِ، وليَكونَ كذلك خَوفًا وفزَعًا للمُرتَدِّينَ، فظلَّ يُقاتِلُ حتَّى قُتِلَ رحِمَه اللهُ، وبهذا يكونُ قدْ مات شَهيدًا في سَبيلِ اللهِ، وتحقَّقَت له بُشْرى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّه مِن أهلِ الجنَّةِ.
وفي الحَديثِ: فَضلٌ ومَنقَبةٌ لثابتِ بنِ قَيسٍ رَضيَ اللهُ عنه.