‌‌مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه560

مسند احمد

‌‌مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه560

حدثنا حسن، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البيت المعمور في السماء السابعة، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه " (1)

رِحْلَةُ الإسْراءِ والمِعْراجِ مِنَ المُعْجِزاتِ الكُبْرى لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التي ظَهَرَ فيها فَضْلُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعُلوُّ مَقامِه عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ.
وهذا الحديثُ جُزءٌ مُخْتصرٌ من حَديثِ الإسراءِ الطويلِ، وفيه يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "أُتِيتُ بالبُراقِ، وهو دابَّةٌ أَبْيَضُ طَويلٌ، فَوْقَ الحِمارِ، ودُونَ البَغْلِ"، أي: أَقَلُّ في حَجْمِها مِنَ البَغْلِ وأعْلى مِنَ الحِمارِ "يَضَعُ حافِرَهُ عندَ مُنْتَهى طَرْفِهِ"، أي: أنَّ خُطْوَتَهُ الواحِدَةَ بمِقْدارِ ما يَنْتَهي إليه بَصَرُ البُراقِ "فرَكِبْتُهُ، حتى أَتَيْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ"، أي: المسْجِدَ الأَقْصى في فِلَسْطِينَ. وفي روايةٍ عِندَ مُسلمٍ: "أُتيتُ فانطَلقوا بي إلى زَمْزمَ، فشُرِحَ عن صَدْري، ثم غُسِلَ بماءِ زَمْزَم، ثُمَّ أُنزِلْتُ"، أي: إنَّ إتيانَ البُراقِ قد سبَقَ حادثةَ شَقِّ الصَّدرِ وغَسْلِه بماءِ زَمْزَم. قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "فرَبَطْتُهُ بالحَلْقَةِ التي تَرْبِطُ بها الأنْبِياءُ" وَهُوَ الشَّيْءُ أَيِ: الَّذِي يَرْبِطُ بِهِ الأنْبِياءُ دَوابَّهُم أمامَ بابِ المسْجِدِ الأَقْصى، "ثم دَخَلْتُ المسْجِدَ، فصَلَّيْتُ فيه رَكْعَتيْنِ، ثم خَرَجْتُ، فجاءني جِبريلُ بإناءٍ من خَمْرٍ، وإناءٍ من لَبَنٍ، فاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فقال جِبريلُ: اخْتَرْتَ الفِطْرَةَ" أَيِ التي فُطِرَ النَّاسُ عليها، وَهُوَ: {الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36]، وقيل مَعنْاهُ: اخْتَرْتَ عَلامَةَ الإسْلامِ والاسْتِقامَةِ، وجَعَلَ اللَّبَنَ عَلامَةً لكَوْنِهِ سَهْلًا طَيِّبًا، طاهِرًا سائِغًا للشارِبينَ، سَليمَ العاقِبَةِ، وأما الخَمْرُ، فإنَّها أُمُّ الخَبائِثِ، وجالِبَةٌ لأنْواعٍ من الشَّرِّ في الحالِ والمآلِ.
ثم قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "ثم عُرِجَ بنا إلى السَّماءِ"، أي: السَّماءِ الأُولى، وتُسمَّى بالسَّماءِ الدُّنْيا، "فاسْتَفْتَحَ جِبريلُ"، أي: طَلَبَ جِبريلُ عليه السَّلامُ بفَتْحِ بابِ السَّماءِ ممَّنْ هو مُوكَّلٌ به مِنَ الملائكةِ، "فقيل: مَنْ أَنْتَ؟"، أي: قالتْ ملائكةُ السَّماءِ مَنِ المُسْتَفْتِحُ؟ "قال: جِبريلُ" وهذا بَيانٌ لأَدَبِ الاسْتِئْذانِ بين الملائكةِ وعندَ دُخولِ أبْوابِ السَّماءِ "قيل: وَمَنْ مَعَك؟ قال: مُحَمَّدٌ، قيل: وَقَدْ بُعِثَ إليه؟"، أي: هل أَرْسَلَ اللهُ بأَمْرِ عُروجِهِ إلى السَّماءِ؟ وليس المَقْصودُ أنَّه يَسْأَلُ عنِ الإرْسالِ إلى النَّبيِّ بالرِّسالَةِ والنُّبوَّةِ، "قال: قَدْ بُعِثَ إليه، ففَتَحَ لنا، فإذا أنا بآدَمَ"، أي: وَجَدَ آدَمَ عليه السَّلامُ في السَّماءِ الأُولى "فرَحَّبَ بي، وَدَعا لي بخَيْرٍ، "
وهكذا كُلَّما صَعِدَ جِبريلُ والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى السَّماءِ التي تليها يُسْأَلُ عَنِ المُسْتَفْتِحِ، ويَجِدُ في كُلِّ سماءٍ أَحَدَ الرُّسُلِ والأنْبِياءِ، وكُلُّهم يَفْعلونَ معه مِثْلَ ما فَعَلَهُ آدَمُ عليه السَّلامُ، آدَمُ أبو البَشَرِ عليه السَّلامُ في السَّماءِ الأُولى مِنَ التَّرْحيبِ والدُّعاءِ له بالخَيْرِ، "ثم عُرِجَ بنا إلى السَّماءِ الثانِيَةِ" فاسْتَفْتَحَ جِبريلُ، فقيل: مَنْ أَنْتَ؟ قال: جِبريلُ، قيل: وَمَنْ مَعَك؟ قال: مُحَمَّدٌ، قيل: وَقَدْ بُعِثَ إليه؟ قال: قَدْ بُعِثَ إليه، ففَتَحَ لنا، فإذا أنا بابْنَيِ الخالَةِ: عيسى ابْنِ مَرْيَمَ، ويَحْيَى بنِ زَكَريا، فرَحَّبا بي، ودَعَوْا ليَ بِخَيْرٍ، ثم عُرِجَ بنا إلى السَّماءِ الثالِثَةِ، فاسْتَفْتَحَ جِبريلُ، فقيل: مَنْ أَنْتَ؟ قال: جِبريلُ، قيل: وَمَنْ مَعَك؟ قال: مُحَمَّدٌ، قيل: وَقَدْ بُعِثَ إليه؟ قال: قَدْ بُعِثَ إليه، ففَتَحَ لنا، فإذا أنا بيُوسُفَ"، أي: فيها يُوسُفُ بنُ يَعْقوبَ عليه السَّلامُ، "وإذا هو قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الحُسْنِ"، أي: نِصْفَ الجَمالِ "فرَحَّبَ بي، وَدَعَا ليَ بِخَيْرٍ، ثم عُرِجَ بنا إلى السَّماءِ الرَّابِعَةِ، فاسْتَفْتَحَ جِبريلُ، فقيل: مَنْ هذا؟ قال: جِبريلُ، قيل: وَمَنْ مَعَك؟ قال: مُحَمَّدٌ، قيل: وَقَدْ بُعِثَ إليه؟ قال: قَدْ بُعِثَ إليه، ففَتَحَ لنا، فإذا أنا بإِدْريسَ، فرَحَّبَ بي، وَدَعا لِيَ بِخَيْرٍ، قال اللهُ تَعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} ثم عُرِجَ بنا إلى السَّماءِ الخامِسَةِ، فاسْتَفْتَحَ جِبريلُ، فقيل: مَنْ هذا؟ قال: جِبريلُ، قيل: وَمَنْ مَعَك؟ قال: مُحَمَّدٌ، قيل: وَقَدْ بُعِثَ إليه؟ قال: قَدْ بُعِثَ إليه، ففَتَحَ لنا، فإذا أنا بهارونَ"، أي: وَجَدَ هارونَ بنَ عِمْرانَ عليه السَّلامُ "فرَحَّبَ بي، وَدَعا لِيَ بِخَيْرٍ، ثم عُرِجَ بنا إلى السَّماءِ السادِسَةِ، فاسْتَفْتَحَ جِبريلُ، فقيل: مَنْ هذا؟ قال: جِبريلُ، قيل: وَمَنْ مَعَك؟ قال: مُحَمَّدٌ، قيل: وَقَدْ بُعِثَ إليه؟ قال: قَدْ بُعِثَ إليه، ففَتَحَ لنا، فإذا أنا بموسى، فرَحَّبَ بي، وَدَعا لِيَ بِخَيْرٍ، ثم عُرِجَ بنا إلى السَّماءِ السابِعَةِ، فاسْتَفْتَحَ جِبريلُ، فقيل: مَنْ هذا؟ قال: جِبريلُ، قيل: وَمَنْ مَعَك؟ قال: مُحَمَّدٌ، قيل: وَقَدْ بُعِثَ إليه؟ قال: قَدْ بُعِثَ إليه، ففَتَحَ لنا"، فإذا إبراهيمُ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلى البَيْتِ المَعْمورِ" وهو كحالِ الكَعْبةِ في الأرْضِ، وقيل: إنَّه فَوْقَها ومُسامِتٌ لها "وإذا هو يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعونَ أَلْفَ مَلَكٍ، لا يَعودونَ إليه" وهذا إعْلامٌ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بكَثْرَةِ جُنودِ اللهِ تَعالى، وتَضاعُفِ عَدَدِ ملائكتِهِ، وأما إسْنادُ إبراهيمَ ظَهْرَهُ إليه، فالذي أرادَ في ذلك أنَّه لم يَبْقَ بعدَ المَوْتِ عِبادَةٌ ولا تَكْليفٌ ولا تَوَجُّهٌ إلى قِبْلَةٍ بل أَسْنَدَ ظَهْرَهُ إلى البَيْتِ، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "ثم ذُهِبَ بي إلى سِدْرَةِ المُنْتَهى" وهي: شَجَرَةٌ يَنْتَهي إليها ما يَعْرُجُ من الأرْضِ، وما يَهْبِطُ إليها، فيُقْبَضُ عندَها، وقيل: إنَّها يَنْتَهي إليها عِلْمُ الملائكةِ، ولم يجاوِزْها أَحَدٌ إلَّا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، "وإذا وَرَقُها كآذانِ الفِيَلَةِ"، أي: وَرَقُ شَجَرَةِ سِدْرَةِ المُنْتَهى، في حَجْمِ آذانِ الفِيَلَةِ، "وإذا ثَمَرُها كالقِلالِ"، أي: مِثْلَ الجَرَّةِ الكبيرةِ في الحَجْمِ، "فلمَّا غَشِيَها من أَمْرِ اللهِ ما غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فما أَحَدٌ من خَلْقِ اللهِ يَسْتطيعُ أنْ يَنْعَتَها مِن حُسْنِها"، أي: لا يَسْتَطيعُ أَحَدٌ أنْ يَصِفَها، "فأَوْحَى اللهُ إِلَيَّ ما أَوْحَى"، وفي رِوايَةِ البُخاريِّ: "فَأَوْحَى اللهُ فِيمَا أَوْحَى إليه"، أي: كان التَّكاليفُ التي أَمَرَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ بها، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "ففَرَضَ عَلَيَّ خَمْسينَ صَلاةً في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ"، أي: أَمَرهُ اللهُ عزَّ وجلَّ بعدَ ما بَلَغَ في صُعودِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في السَّمَواتِ ما بَلَغَ؛ بالصَّلاةِ، وعَدَدُها خَمْسونَ في اليَوْمِ الواحِدِ، "فنَزَلْتُ إلى موسى"، أي: بعدَ ما أَخَذَ عن اللهِ ما فَرَضَهُ عليه، وعلى أُمَّتِهِ من صَلاةٍ، فقال موسى عليه السَّلامُ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "ما فَرَضَ رَبُّكَ على أُمَّتِكَ؟ قلتُ: خَمْسينَ صَلاةً، قال: ارْجِعْ إلى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفيفَ"، أي: أَنْ يُخفِّفَ عليك مِنْ عَدَدِ الصَّلَواتِ ويُنْقِصَها عَنِ الخَمْسينَ، "فإنَّ أُمَّتَكَ لا تُطيقُ ذلك"، أي: لا تَقْوَى عليها، ولَنْ تَقْدِرَ أنْ تَقومَ بها، "فإنِّي قد بَلَوْتُ بني إسْرائيلَ وخَبَرْتُهم"، أي: يُحاوِلُ أنْ يُغيِّرَ فيهم إلى أَنْ يُؤَدُّوا ما فُرِضَ عليهم بكُلِّ جُهْدٍ ومَشَقَّةٍ، "فرَجَعْتُ إلى رَبِّي، فقلتُ: يا رَبِّ خَفِّفْ عن أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فرَجَعْتُ إلى موسى، فقلتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، قال: إنَّ أُمَّتَكَ لا يُطيقونَ ذلك، فارْجِعْ إلى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفيفَ، فلم أَزَلْ أَرْجِعُ بين ربي وبين مُوسَى، حتى قال"، أي: قال اللهُ سُبْحانهُ "يا مُحَمَّدُ إنَّهن خَمْسُ صَلَواتٍ كُلَّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ لِكُلِّ صلَاةٍ عَشْرٌ، فذلك خَمْسونَ صَلاةً"، أي: أنَّ كُلَّ صَلاةٍ من الخَمْسِ بِعَشْرِ دَرَجاتٍ، فتَعْدِلُ الخَمْسُ أداءَ الخَمْسينَ في الأَجْرِ، ثم قال اللهُ عزَّ وَجَلَّ: "ومَنْ هَمَّ بحَسَنَةٍ فلم يَعْمَلْها كُتِبَتْ له حَسَنَةٌ، فإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ له عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بسَيِّئَةٍ فلم يَعْمَلْها لم تُكْتَبْ شيئًا، فإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ سَيِّئَةً واحِدَةً"، أي: وكان هذا مِنَ التَّكاليفِ التي أوْحاها اللهُ عزَّ وجلَّ وكلَّف بها نبيَّهُ، وهو فضْلٌ منَ اللهِ سُبْحانهُ لأُمَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "فنَزَلْتُ حتى انْتَهَيْتُ إلى موسى، فأَخْبَرْتُهُ، فقال: ارْجِعْ إلى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفيفَ، فقلتُ: قد رَجَعْتُ إلى رَبِّي حتى اسْتَحْيَيْتُ منه"، أي: أَسْتَحي أنْ أَطْلُبَ مزيدًا منَ التَّخْفيفِ بعدَ ما خُفِّفَتْ من خَمْسينَ إلى خَمْسَةٍ، فإنِّي إذا رَجَعْتُ كنتُ غيرَ راضٍ ولا مُسَلِّمٍ، والحياءُ خَصْلَةٌ مَحْمودةٌ مَمْدوحٌ عليها صاحِبُها.
وفي الحديثِ: بَيانُ فَضْلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الأنْبِياءِ والعالَمين.
وفيه: إثباتُ مُعجِزَةِ الإسْراءِ والمِعْراجِ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه: بَذْلُ النَّصيحةِ لِمَنْ يَحتاجُ إليها، وإنْ لم يَحْتَجِ النَّاصِحُ إليها، ولم يَطْلُبْها المنصوحُ.
وفيه: أنَّ الملائكةَ أَكْثَرُ الخَلْقِ، إذْ لا يُعْرَفُ مِن جميعِ العوالَمِ مَنْ يَتَجدَّدُ مِن جِنْسِهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعونَ ألفًا غَيْر ما ثَبَتَ عنِ الملائكةِ في هذا الخَبَرِ.
وفيه: إثباتُ أنَّ السَّمَواتِ عَدَدُهُنَّ سَبْعٌ.
وفيه: أَنَّ الحَسَنَةَ تَتَضاعَفُ لصاحِبِها، والسَّيِّئَةُ لا تَتَضاعَفُ.