مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه678
حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أنس، أو عن النضر بن أنس، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف " فقال أبو بكر: زدنا يا رسول الله. قال: " وهكذا " وجمع كفه، قال: زدنا يا رسول الله. قال: " وهكذا "، فقال عمر حسبك يا أبا بكر، فقال أبو بكر: دعني يا عمر، وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا فقال عمر: إن الله إن شاء أدخل خلقه الجنة بكف واحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " صدق عمر
فَضْلُ اللهِ تَعالى على أُمَّةِ الإسلامِ عَظيمٌ، ومِن ذلك ما تَفضَّلَ به عليها مِن كَثرةِ مَن يُدخِلُه الجَنَّةَ مِن هذه الأُمَّةِ المَرحومةِ، ومِن كَونِها أوَّلَ مَن يَدخُلُ الجَنَّةَ مِنَ الأُمَمِ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "إنَّ اللهَ وَعَدَني أنْ يُدخِلَ الجَنَّةَ مِن أُمَّتي أربَعَمِائةِ ألْفٍ"، ووَعْدُه عَزَّ وجَلَّ لِنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كَرَمٌ منه وتَفضُّلٌ على أُمَّةِ الإسلامِ، وهو أنْ يُدخِلَ عَدَدًا منهمُ الجَنَّةَ بغَيرِ حِسابٍ، كما جاء في الصَّحيحَيْنِ مِن حَديثِ عَبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: "يَدخُلُ الجَنَّةَ مِن أُمَّتي سَبعونَ ألْفًا بغَيرِ حِسابٍ، هُمُ الذين لا يَستَرْقونَ، ولا يَتطَيَّرونَ، وعلى رَبِّهم يَتوَكَّلونَ"، والمُرادُ بهذا العَدَدِ الكَثرةُ، لا الحَصرُ، فجَعَلَ أبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه يَطلُبُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَستَزيدَ رَبَّه في كَثرةِ الذين يَدخُلونَ الجَنَّةَ بغَيرِ حِسابٍ، وهذا مِن حُبِّ الخَيرِ لِلمُسلِمينَ جَميعًا، والظاهِرُ أنَّ هؤلاء يَدخُلونَ الجَنَّةَ مِن غَيرِ شَفاعةٍ مَخصوصةٍ، وإنْ كانوا داخِلينَ في الشَّفاعةِ العامَّةِ، وجَعَلَ أبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه يَجمَعُ كَفَّيْه لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ إشارةً إلى هذا الاستِكثارِ الذي يَطلُبُه، قيلَ: الظاهِرُ أنَّ هذا حِكايةٌ لِفِعلِه سُبحانَه، ولذا قال بَعضُهم: إنَّما ضَرَبَ المَثَلَ بالحَثَياتِ؛ لِأنَّ مِن شأنِ المُعطي الكَريمِ إذا استُزيدَ أنْ يَحثيَ بكَفَّيْه مِن غَيرِ حِسابٍ، ورُبَّما ناوَلَه مِلءَ كَفٍّ، فالحَثْيُ كِنايةٌ عنِ المُبالَغةِ في الكَثرةِ، وإلَّا فلا كَفَّ ولا حَثْيَ.فراجَعَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه أبا بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه في استِزادَتِه رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقال له: "حَسبُكَ يا أبا بَكرٍ"، أي: يَكفيكَ ما ذَكَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فاترُكْنا على ما بَيَّنَ لنا الحالُ مِمَّا أجمَلَ؛ لِنَكونَ بيْن الخَوفِ والرَّجاءِ، فرَدَّ عليه أبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه: "وما عليكَ أنْ يُدخِلَنا اللهُ الجَنَّةَ كُلَّنا"، والمَعنى: ليس هناك بَأْسٌ ولا ضَرٌّ أنْ نَطمَعَ أنْ يُدخِلَنا اللهُ جَميعًا الجَنَّةَ بغيرِ حِسابٍ، فراجَعَه عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه مَرَّةً أُخرى، وأبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه يَرُدُّ عليه، حتى قال عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه: "إنَّ اللهَ إنْ شاءَ أدخَلَ خَلْقَه الجَنَّةَ بكَفٍّ واحِدٍ"، والمَعنى: إنَّ اللهَ قادِرٌ على أنْ يُدخِلَ جَميعَ مَخلوقاتِه مِنَ الإنسِ والجِنِّ، مُؤمِنَهم وكافِرَهم، ومُطيعَهم وفاجِرَهم، كما قال سُبحانَه: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9]، ويَكونُ ذلك منه سُبحانَه بكَفٍّ واحِدةٍ، ليس بكَفَّيْنِ، قال جَلَّ شَأْنُه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "صَدَقَ عُمَرُ"، أيْ: لو أرادَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ أنْ يُدخِلَ الخَلْقَ كُلَّهم بفَضلٍ مِنه ورَحمةٍ، لَفَعَلَ؛ فأمْرُ اللهِ مُفَوَّضٌ في عِبادِه، وهو أعلَمُ بهم وأرحَمُ.قيلَ: إنَّ الذي ذَهَبَ إليه أبو بَكرٍ هو مِن بابِ التَّضرُّعِ والمَسكَنةِ، وإنَّ الذي ذَهَبَ إليه عُمَرُ مِن بابِ التَّفويضِ والتَّسليمِ.
وفي الحَديثِ: إثباتُ أنَّ للهِ عَزَّ وجَلَّ كَفًّا مِن غَيرِ تَعطيلٍ أو تَكييفٍ أو تَشبيهٍ.