مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه73
حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس قال: " أقيمت الصلاة وقد كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين نسائه شيء، فجعل يرد بعضهن عن بعض "، فجاء أبو بكر فقال: احش (1) يا رسول الله في أفواههن التراب، واخرج إلى الصلاة (2)
حَرَصَ الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم على نَقلِ كُلِّ أفعالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حتى ما يَحدُثُ في بَيتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن أُمورٍ حَياتيَّةٍ؛ وذلك لِمَعرِفةِ كيف كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتعامَلُ في مَواقِفِ الحياةِ المُختَلِفةِ، ولِيُقتَدى به في هذه الجَوانِبِ أيضًا.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه "أُقيمَتِ الصَّلاةُ على عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ" بمَعنى: حانَ وَقتُ الصَّلاةِ وأُذِّنَ لها، ثم أقامَ المُؤذِّنُ لِصَلاةِ الفَريضةِ لِيَخرُجَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى المَسجِدِ لِيَؤُمَّ الناسَ، "وقد كانَ بَينَ نِساءِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شَيءٌ" مِنَ الخِلافِ الذي يَحدُثُ بَينَ الضَّرائِرِ، وقد بَيَّنتْ رِوايةُ مُسلِمٍ سَبَبَ ذلك، وهو أنَّه "كانَ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تِسعُ نِسوةٍ، فكانَ إذا قَسَمَ بَينَهُنَّ، لا يَنتَهي إلى المَرأةِ الأُولى إلَّا في تِسعٍ، فكُنَّ يَجتَمِعنَ كُلَّ لَيلةٍ في بَيتِ التي يأتيها، فكانَ في بَيتِ عائِشةَ، فجاءَتْ زَينَبُ، فمَدَّ يَدَه إليها، فقالَتْ: هذه زَينَبُ.
فكَفَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَدَه، فتَقاوَلَتا حتى استَخَبَتا" بمَعنى: تَبادَلَتا القَولَ والنِّزاعَ والشِّجارَ، حتى عَلَتْ أصواتُهُما.
قالَ أنَسٌ رَضيَ اللهُ عنه: "فجَعَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَرُدُّ بَعضَهُنَّ عن بَعضٍ"؛ لِيَمنَعَ الشِّجارَ والتَّقاوُلَ بَينَهُما "قالَ: فجاءَه أبو بَكرٍ" وهو مارٌّ على أبياتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كما في رِوايةِ مُسلِمٍ: "فمَرَّ أبو بَكرٍ على ذلك، فسَمِعَ أصواتَهما"، "فقالَ: يا رَسولَ اللهِ، احْثُ في أفواهِهِنَّ التُّرابَ"، والمَعنى: اجعَلْ في أفواهِهِنَّ تُرابًا، وهذا كِنايةٌ عنِ الزَّجرِ، ومَنعِ ما يَحدُثُ بهما مِن خُصومةٍ وعُلوِّ أصواتِهِنَّ؛ مُبالَغةً فى التَّسكيتِ لِمَن لم يَسكُتْ عن كَلامٍ يُكرَه، والحَثْيةُ: قَدْرُ ما يَملَأُ الكَفَّيْنِ. "واخرُجْ إلى الصَّلاةِ" بَعدَ زَجرِهِنَّ؛ فإنَّ الصَّلاةَ قد أُقيمَتْ والناسُ يَنتَظِرونَ.
وفي رِوايةِ مُسلِمٍ: "فخَرَجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"، أيْ: إلى الصَّلاةِ، فقالَتْ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها بَعدَما خَرَجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مع أبي بَكرٍ: "الآنَ يَقضي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صَلاتَه فيَجيءُ أبو بَكرٍ فيَفعَلُ بي ويَفعَلُ"، أيْ إنَّ أبا بَكرٍ إذا انتَهى مِن صَلاتِه مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وجاءَ إلينا فسَيُعَنِّفُني ويَزجُرُني زَجرًا شَديدًا؛ لِمَا فَعَلتُ. "فلَمَّا قَضى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صَلاتَه أتاها أبو بَكرٍ، فقالَ لها قَولًا شَديدًا"، أيْ: لامَها وعَنَّفَها وزَجَرَها زَجرًا شَديدًا على ما صَنَعتْ، وقالَ أبو بَكرٍ لِعائِشةَ: أتَصنَعينَ هذا؟"، أيْ: مُعاتِبًا لها على ما كانَ منها مِن نِزاعٍ مع زَينَبَ عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي الحَديثِ: مَنقبةٌ ظاهرةٌ لِأبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه؛ لِمَا أشفَقَ به على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: حُسنُ مُداراةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أزواجَه، وصَبرُه عليهِنَّ.
وفيه: تَوبيخُ الأبِ أو وَليِّ المَرأةِ لها عِندَ زَوجِها؛ لِرَدْعِها عنِ السُّوءِ..