مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه997
مسند احمد
حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن ثابت، (2) عن أنس قال: مر بجنازة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أثنوا عليها " (3) ، فقالوا: كان ما علمنا يحب الله ورسوله، وأثنوا عليه خيرا، فقال: " وجبت ". ثم مر عليه بجنازة أخرى، فقال: " أثنوا عليها "، فقالوا: بئس المرء كان في دين الله، فقال: " وجبت، أنتم شهود (4) الله في الأرض "
قَدَّر اللهُ سُبْحانهُ مَقاديرَ كُلِّ شَيءٍ، وبيَدِه مَقاليدُ الأُمورِ، ولا يَستَطيعُ أحَدٌ أنْ يُغيِّرَ مِن حُكمِهِ شيئًا، وجعَل بعضَ خلقِه شُهودًا على بَعضٍ بما فيهم من الخيرِ والشرِّ.
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه كان جالِسًا معَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فمرَّتْ عليهم جِنازةٌ مَحْمولةٌ على الأعْناقِ لتُدفَنَ -والجِنازةُ: اسمٌ للميِّتِ في نَعْشِه- فسَأَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن هذه الجِنازةِ، ومَنِ الميِّتُ؟ فأجابَه أصْحابُه رَضيَ اللهُ عنهم بأنَّها جِنازةُ فُلانٍ الفُلانيِّ، وذَكَروا أنَّه رجُلٌ كان يُحِبُّ اللهَ ورَسولَه، ويَعمَلُ بطاعةِ اللهِ ويَسْعى فيها، وهذه شَهادةٌ منَ النَّاسِ له بأنَّه كان رجُلًا طائعًا ومُحبًّا للهِ ورسولِه، فيما عَلِموا مِن ظاهِرِ حالِه الَّتي كان عليها في الدُّنْيا وقبْلَ مَوتِه، فقال لهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «وجبَتْ وجبَتْ وجبَتْ»، أي: ثبَتَتْ له الجنَّةُ بشَهادةِ أهلِ الصَّلاحِ له.
ثمَّ مَرُّوا عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بجِنازةٍ أُخْرى مَحمولةٍ على الأعْناقِ لتُدفَنَ، فسَألَ عنها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومَنِ الميِّتُ؟ فأجابَه النَّاسُ بأنَّها جِنازةُ فُلانٍ الفُلانيِّ، وذَكَروا أنَّه رجُلٌ كان يَكرَهُ اللهَ ورسولَه، وكان يَعمَلُ بمَعْصيةِ اللهِ بنفْسِه، ويَسْعى فيها، ويَنشُرُها بيْن النَّاسِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه سلَّمَ: «وجبَتْ وجبَتْ وجبَتْ»، أي: ثبَتَتْ له النَّارُ، أوِ العُقوبةُ التي يَستَحِقُّها.
فاستَفسَرَ أصْحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للجِنازَتَينِ: «وجبَتْ» عندَ الثَّناءِ وذِكرِ الأُولى بالخَيرِ، وعندَ القَدْحِ وذِكْرِ الثَّانيةِ بالشَّرِّ، وظاهِرُ الرِّوايةِ يُبيِّنُ أنَّ السَّائلَ كان أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنَّ للهِ مَلائكةً تَنطِقُ على ألْسِنةِ بَني آدَمَ بما في المَرءِ مِنَ الخَيرِ والشَّرِّ»، فكأنَّ هذه المَلائكةَ تُركِّبُ ألْسِنَتَها على ألْسِنةِ النَّاسِ؛ لِيَنطِقوا بما كان يَعمَلُه الإنْسانُ في الدُّنيا مِن خَيرٍ أو مِن شَرٍّ، وفي هذا مَنقَبةٌ لأصْحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في أنْ تَنطِقَ المَلائكةُ على ألسِنَتِهم.
وفي رِوايةِ النَّسائيِّ مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه: «المَلائكةُ شُهَداءُ اللهِ في السَّماءِ، وأنتم شُهَداءُ اللهِ في الأرضِ»، فالمَلائكةُ يَكونونَ شُهَداءَ اللهِ على أعْمالِ عِبادِهِ في السَّماءِ، ويكونُ المؤمِنونَ شُهَداءَ اللهِ في الأرْضِ، فيَشْهَدونَ على النَّاسِ بالصَّلاحِ أوِ الفَسادِ، فجعَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شَهادةَ أصْحابِهِ لأحَدٍ بالجنَّةِ، أوِ النَّارِ دَليلًا على وُجوبِها، ومَعْنى وُجوبِ الجنَّةِ لأحَدٍ ثُبوتُها له؛ إذِ الثُّبوتُ هو في صِحَّةِ الوُقوعِ كالشَّيْءِ الواجِبِ، والأصْلُ أنَّه لا يَجِبُ على اللهِ شَيءٌ، بلِ الثَّوابُ فَضْلُهُ، والعِقابُ عَدْلُه، لا يُسْألُ عمَّا يَفعَلُ، على أنَّ هذا الثَّناءَ بالخيْرِ أوِ الشرِّ لمَن أثْنَى عليه النَّاسُ؛ فكان ثَناؤُهُم مُطابِقًا لأفْعالِ مَن أثنَوْا عليه، فإنْ لم يكُنْ كذلك، فليس هو مُرادًا بالحَديثِ، وقد قيلَ: إنَّ المُخاطَبينَ بذلك هُمُ الصَّحابةُ، ومَن كان على صِفَتِهم منَ الإيمانِ؛ لأنَّهم يَنْطِقونَ بالحِكْمةِ، ويَختَصُّ ذلك بالثِّقاتِ والمُتَّقينَ.
وفي الحَديثِ: مَشروعيَّةُ ذِكرِ المَرءِ بما فيه مِن خَيرٍ أو شَرٍّ للحاجَةِ، وليس ذلك مِنَ الغِيبةِ.