حديث الأعرابي4
مسند احمد
حدثنا روح بن عبادة، حدثنا قرة بن خالد، قال: سمعت يزيد بن عبد الله بن الشخير، قال: كنا بالمربد جلوسا، فأتى علينا رجل من أهل البادية، لما رأيناه قلنا: كأن هذا رجل ليس من أهل البلد، قال: أجلفإذا معه كتاب في قطعة أديم، قال: وربما قال: في قطعة جراب، فقال: هذا كتاب كتبه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لبني زهير بن أقيش، وهم حي من عكل، إنكم إن أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وفارقتم المشركين، وأعطيتم الخمس من المغنم، ثم سهم النبي، والصفي، وربما قال: وصفيه، فأنتم آمنون بأمان الله، وأمان رسوله "، فذكر معنى حديث الجريرى (1
كان الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُراسِلُ الملوكَ وزُعماءَ القَبائلِ بقَصْدِ دَعوَتِهم إلى الإسلامِ.
وفي هذا الحديثِ يَقولُ التَّابعيُّ يَزيدُ بنُ عبدِ اللهِ: "جاءنا أعرابيٌّ" مِن سُكَّانِ الصَّحراءِ، قِيلَ هو: النَّمِرُ بنُ تَولَبٍ الشَّاعرُ صاحبُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "ونحن بالمِرْبَدِ"، أي: بمُجتمَعِ الإبِلِ، وهو مَوضِعٌ بالمدينةِ على بُعْدِ مِيلٍ منها، "فقال: هلْ فيكم قارئٌ؟" أي: يَعرِفُ القِراءةَ، "يَقرَأُ هذه الرُّقعةَ" والرُّقعةُ تُتَّخَذُ مِن الجِلْد المَدْبوغِ، والمرادُ أنَّه مُمسِكٌ برِسالةٍ مَكتوبةٍ على قِطعةِ جِلْدٍ، "قُلْنا: كُلَّنا نَقرَأُ"، أي: أنَّ يَزِيدَ ومَن معه يُحسِنون القِراءةَ، "قال: فاقْرَؤوها لي، قال: هذا كِتابٌ كَتَبَه لي محمَّدٌ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم لِبني زُهيرِ بن أُقَيشٍ؛ حيٍّ مِن عُكْلٍ"، وهي قَبيلةٌ عَدْنانيَّةٌ مِن تَيمِ الرَّبابِ كانتْ تَسكُنُ اليَمامةَ المعروفةَ، وهي مَدينةُ الرِّياضِ حاليًّا في الجزيرةِ العربيةِ، "أنَّكم إنْ شَهِدْتُم لا إلهَ إلَّا اللهُ"، أي: أنَّه لا مَعبودَ بحقٍّ سِواهُ، "وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ"، أي: وشَهِدْتُم للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالرِّسالةِ، "وأقمْتُمُ الصَّلاةَ"، أي: وصَلَّيْتُم الفرائضَ الخمْسَ في أوقاتِها بشُروطِها، "وآتيتُم الزَّكاةَ" المفروضةَ على مَن امْتلَكَ النِّصابَ وحالَ عليه الحولَ، "وأخرَجْتُم الخُمُسَ مِن الغَنيمِة"، وهو خُمُسُ ما يُحصَلُ عليه مِن غَنيمَةِ الحرْبِ، يُخرَجُ لِيُصرَفَ في المَصارفِ الَّتي حدَّدها اللهُ عزَّ وجلَّ، والمغنَمُ: هو ما يُحصَلُ عليه مِن أمْوالِ العدُوِّ بعدَ جِهادِهم وغَزْوِهم، "وسهْمَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم" وهو نَصيبُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فإنَّه كان يُسْهَمُ له كسَهمِ رجُلٍ ممَّن شَهِدَ الوَقْعةَ؛ حضَرَها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أو غابَ عنها، "وصَفِيَّه" والصَّفِيُّ هو ما يَختارُه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِنَفْسِه مِن الغَنيمةِ قبْلَ تَقسيمِها، فإنْ فعَلتُم ذلك "فإنَّكم آمِنونَ بأمانِ اللهِ"، أي: أنتم آمِنون على أنفُسِكم وأمْوالِكم وأعراضِكم؛ بسبَبِ إعطاءِ اللهِ تَعالى ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الأمانَ لكُم، وكفَفْنا عَنكُمُ القِتالَ، وأصبَحْتُم مِن أهلِ الإسلامِ.
قال يَزيدُ بنُ عبدِ اللهِ: "قُلنا: إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم كتَبَ لكمْ هذا الكِتابَ؟!" وهو اسْتِفهامٌ للتَّعجُّبِ ممَّا في الصَّحيفةِ، وللتَّأكُّدِ ممَّا فيها، "قال: نعمْ، أتَرَوني أكذِبُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم؟!" وهذا اسْتِنكارٌ منه لِقَولِهم وتَعجُّبِهم، وتأْكيدٌ على أنَّه لا يَكذِبُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم، "وغضِبَ، فضَرَبَ بِيَدِه على الكتابِ" فجَذَبَهُ، "فأخَذَه، قال: فاتَّبَعناهُ، فقُلنا: حَدِّثْنا يا أبا عبدِ اللهِ عن شَيءٍ سمِعْتَه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم"، وهذا كان مِن عادةِ التابعينَ؛ عِندما يَجِدون رجُلًا مِن صَحابةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال رضِيَ اللهُ عنه: "سمِعْتُه يقولُ: إنَّ ممَّا يُذهِبُ كَثيرًا مِن وَحَرِ الصَّدرِ"، أي: يُزيلُ ما به مِن الغِشِّ والحِقدِ، أو غَيظِه، أو نِفاقِه، أو أشَدَّ الغَضبِ، "صَومَ شَهرِ الصَّبرِ" وهو شَهرُ رَمضانَ، "وصَومَ ثلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شَهرٍ"، فيُكتَفَى بعْدَ رَمضانَ بصِيامِ ثلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شَهرٍ على مَدارِ العامِ، وهذا يُساوي صِيامَ العامِ كلِّه؛ لأنَّ الحَسَنةَ بعشْرِ أمْثالِها؛ فشَهرٌ بعشَرةِ أشْهُرٍ، وثلاثةُ أيَّامٍ مِن كلِّ شَهرٍ تُساوي الشَّهرَ كلَّه.
وهذا مِن التَّربيةِ النَّبويَّةِ للنَّاسِ على التَّعبُّدِ للهِ بقَدْرِ الاستِطاعَةِ، وعدَمِ المشقَّةِ على النَّفْسِ؛ حتَّى يُداوِمَ عليها العَبدُ .