مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه 514
مسند احمد
حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو الزبير، سمع جابر بن عبد الله، أنه قال: إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم سألنه النفقة، فلم يوافق عنده شيء حتى أحجزنه، فأتاه أبو بكر فاستأذن عليه، فلم يؤذن له، ثم أتاه عمر فاستأذن عليه، فلم يؤذن له، ثم استأذنا بعد ذلك، فأذن لهما، ووجداه بينهن [ص:45]، فقال له عمر: يا رسول الله، إن ابنة زيد سألتني النفقة، فوجأتها - أو نحو ذلك - وأراد بذلك أن يضحكه، فضحك حتى بدت نواجذه، وقال: «والذي نفسي بيده، ما حبسني غير ذلك» ، فقاما إلى ابنتيهما، فأخذا بأيديهما، فقالا: أتسألان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده؟ فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما، فقالتا: لا نعود، فعند ذلك نزل التخيير
كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كَريمَ النَّفْسِ مع زَوجاتِه، وقد كانَ يُنفِقُ عليهِنَّ مما آتاه اللهُ، ولكِنَّه كانَ كَثيرَ النَّفَقةِ في سَبيلِ اللهِ، وفي مَصالِحِ الناسِ، حتى إنَّه كانَ لا يُبقي إلَّا القَليلَ لِنَفْسِه وأهلِه، مما تَرتَّبَ عليه بَعضُ ما يَقَعُ مِنَ الزَّوجاتِ مِنَ التَّضرُّرِ، ولكِنَّ اللهَ سُبحانَه خَيَّرهُنَّ بَينَ الصَّبرِ على العَيشِ وبَينَ الطَّلاقِ والفِراقِ بالمَعروفِ
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ جابِرُ بنُ عِبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما: "أنَّ أزواجَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سألْنَه النَّفَقةَ" والمُرادُ أنَّهنَّ سألْنَه زيادَتَها عن عادَتِها؛ لِأنَّه كانَ يُنفِقُ عليهِنَّ ما عِندَه، ولم يَمتَنِعْ عنِ النَّفَقةِ عليهِنَّ، "فلم يوافَقْ عِندَه شَيءٌ" لم يَكُنْ عِندَه شَيءٌ مِنَ المالِ ذلك الوَقتَ لِيُعطيَهُنَّ، "حتى أحجَزْنَه" مَنَعْنَه مِنَ الخُروجِ غَيرَ قاصِداتِ لذلك، "فأتاه أبو بَكرٍ فاستأذَنَ عليه" وطَلَبَ الإذْنَ بالدُّخولِ مِنَ الخادِمِ، أو مَن يَقِفُ على حِراسةِ بابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "فلم يُؤذَنْ له، ثم أتاهُ عُمَرُ فاستأذَنَ عليه، فلم يُؤذَنْ له، ثم استأذَنا بَعدَ ذلك، فأُذِنَ لهما" فسُمِحَ لهما بالدُّخولِ بَعدَ تَكرارِهما الاستِئذانَ، "ووَجَداه بَينَهُنَّ" جالِسًا بَينَ نِسائِه، "فقالَ له عُمَرُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ ابنةَ زَيدٍ" يُريدُ: فاطِمةَ بِنتَ زَيدٍ زَوجةَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، "سألَتْني النَّفَقةَ، فوَجَأْتُها -أو نَحوَ ذلك-" والوَجْءُ هو الضَّربُ باليَدِ واللَّكْزُ، "وأرادَ بذلك أنْ يُضحِكَه" مِن فِعلِه مع زَوجَتِه، وكيف تَصرَّفَ معها، "فضَحِكَ" النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن تَطابُقِ حالِه مع حالِ عُمَرَ ومما فَعَلَه عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه، "حتى بَدَتْ نَواجِذُه" بمَعنى أنَّه ضَحِكَ ضَحِكًا عَريضًا حتى ظَهَرتْ أسنانُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مع أنَّه كانَتْ عادَتُه أنَّه يَتبسَّمُ، "وقالَ: والذي نَفْسي بيَدِه" مُقسِمًا باللهِ عَزَّ وجَلَّ، "ما حَبَسَني غَيرُ ذلك"، أي: ما مَنَعَني مِنَ الخُروجِ أو أنْ آذَنَ لكم إلَّا أنَّ زَوجاتي سألْنَني الزِّيادةَ في النَّفَقةِ، ولم أجِدْ ما أزيدُهُنَّ وما أُعطيهِنَّ "فقاما" أبو بَكرٍ وعُمَرُ رَضيَ اللهُ عنهما، "إلى ابنَتَيْهِما" عائِشةَ بِنتِ أبي بَكرٍ، وحَفصةَ بِنتِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما، "فأخَذا بأيديهما" أمسَكَ كُلُّ واحِدٍ منهما بيَدِ ابنَتِه، "فقالا: أتَسألانِ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما ليس عِندَه؟" وهو إنكارٌ عليهما أنْ تَسألا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ زيادةً على ما عِندَه، "فنَهاهما رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عنهما"، فمَنَعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صاحِبَيْه عنِ ابنَتَيْهما، "فقالَتا: لا نَعودُ"، لا نَرجِعُ ولا نَسألُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ زيادةَ النَّفَقةِ بَعدَ ذلك، "فعِندَ ذلك نَزَلَ التَّخييرُ" وهو قَولُ اللهِ تَعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28، 29]، وهذا تَخييرٌ بَينَ الصَّبرِ على العَيشِ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على كُلِّ حالٍ، وبَينَ أنْ يُطلِّقَهنَّ النَّبيُّ ويُعطيَهُنَّ مُتعةً مِنَ المالِ ويُسرِّحَهنَّ ويُرجِعَهُنَّ إلى أهليهِنَّ بالمَعروفِ
وفي الحَديثِ: تأديبُ الرَّجُلِ وَلَدَه، وإنْ كَبِرَ
وفيه: زُهدُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتَقَلُّلُه مِنَ الدُّنيا
وفيه: أنَّ مِن فِعْلِ الصَّحابةِ تَطييبَ نَفْسِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عِندَ حُزنِه