مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم 886
حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، قال: دخلت على ابن عباس، فقلت: يا أبا عباس، كنت عند ابن عمر، فقرأ هذه الآية فبكى. قال: أية آية؟ قلت: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} [البقرة: 284] . قال ابن عباس: إن هذه الآية حين أنزلت، غمت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غما شديدا، وغاظتهم غيظا شديدا، يعني، وقالوا: يا رسول الله ، هلكنا، إن كنا نؤاخذ بما تكلمنا، وبما نعمل، فأما قلوبنا فليست بأيدينا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قولوا: سمعنا وأطعنا " (1) قالوا: سمعنا وأطعنا، قال: فنسختها هذه الآية: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون} [البقرة: 285] إلى {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286] ، فتجوز لهم عن حديث النفس، وأخذوا بالأعمال (2)
كان الصحابة رضي الله عنهم يسارعون في الاستجابة لأوامر الله عز وجل وأوامر نبيه صلى الله عليه وسلم
وفي هذا الحديث يروي أبو هريرة رضي الله عنه أنه لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية: {لله ما في السموات وما في الأرض} خلقا وملكا، امتلاكا حقيقيا، وتصرفا كاملا، وامتلاك الناس في الدنيا للأشياء هو امتلاك صوري مؤقت، {وإن تبدوا} فتظهروا وتعلنوا {ما في أنفسكم} ودواخلكم {أو تخفوه} فتسروه وتضمروه {يحاسبكم} أي: يجازكم {به الله} يوم القيامة، وهو الذي لا تخفى عليه خافية، {فيغفر لمن يشاء} منكم بالفضل والرحمة، {ويعذب من يشاء} منكم بالحق والعدل، {والله على كل شيء قدير} [البقرة: 284] لا يحول دون غفرانه أو عقابه شيء. فلما نزلت هذه الآية وسمعها الناس اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تنذر بالمحاسبة على ما في النفس، وعلى خطرات القلوب؛ فأهمهم الأمر وغمهم، وأزعجهم هذا الحكم وأقض مضاجعهم، فذهب جماعة منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا جثيا على الركب، وسكنت أعضاؤهم، وخشعت أبصارهم، كما هي عادة الخائف الوجل، فقالوا: «أي رسول الله»، و«أي» أداة نداء للقريب، كلفنا قبل ذلك من الأعمال ما نطيق الإتيان به؛ مثل الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، ولكن قد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها؛ لاعتقادهم أنهم مؤاخذون بما لا قدرة لهم على دفعه من الخواطر التي لا تكتسب، ولم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا منهم، وخشي أن يفتح عليهم باب الرضا ببعض الأحكام وعدم الرضا بالبعض الآخر، فقال صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من اليهود والنصارى من قبلكم حين قالوا بشأن تكاليفهم: {سمعنا وعصينا} [البقرة: 93، النساء: 46]، فالأفضل لكم ألا تقولوا: شق علينا كذا، بل قولوا: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}، فلما تكلم بها المسلمون وانقادت بالاستسلام بها ألسنتهم وانصاعت نفوسهم لها، ولأمر ربهم فيها؛ أنزل الله في عقب نزولها من غير فاصل: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه} وهذا إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو الإيمان بالقرآن، {والمؤمنون} عطف على الرسول، ثم أخبر عن الجميع فقال: {كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} [البقرة: 285]؛ فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد، فرد صمد، لا إله غيره، ولا رب سواه، ويصدقون بجميع الملائكة والأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء، لا يفرقون بين أحد منهم، ولا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، بل الجميع عندهم صادقون بارون، راشدون مهديون، هادون إلى سبل الخير، وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله، حتى نسخ الجميع بشرع محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي تقوم الساعة على شريعته، {وقالوا سمعنا وأطعنا}، أي: سمعنا قولك يا ربنا، وفهمناه، وقمنا به، وامتثلنا العمل بمقتضاه، {غفرانك ربنا} وهذا سؤال للمغفرة والرحمة واللطف، {وإليك المصير}، فإليك المرجع والمآب يوم يقوم الحساب، فلما فعلوا ذلك، وقالوا ما أمروا بقوله من إظهار السمع والطاعة لأوامر الله؛ نسخها الله تعالى، فأثبت الآية خطا في المصحف ونسخ الحكم، فأنزل الله تخفيفا عنهم فقال: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} مما تسعه قدرتها وطاقتها وجهدها، {لها ما كسبت} من ثواب الخير، {وعليها ما اكتسبت} من وزر الشر وإثمه، ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد، ولا بما لم يكسبه مما وسوسته به نفسه، {ربنا لا تؤاخذنا} بالعقاب {إن نسينا أو أخطأنا} فتركنا الصواب، لا عن عمد، كما آخذت به من قبلنا، فاستجاب الله سبحانه لهم فقال: «نعم»، أي: قد فعلت، {ربنا ولا تحمل علينا إصرا} من الأمور التي يثقل علينا حملها، {كما حملته على الذين من قبلنا} من بني إسرائيل وغيرهم، فاستجاب الله لهم وقال: «نعم»، أي: قد فعلت، {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} من التكاليف والبلاء، قال: «نعم»، {واعف عنا} فامح عنا ذنوبنا، {واغفر لنا} واستر علينا فيما بيننا وبين عبادك، فلا تظهرهم على سيئاتنا، وتجاوز عنها، {وارحمنا} وجد علينا بالرحمة حتى لا نقع في ارتكاب محظور، أو تهاون في أداء مأمور، {أنت مولانا}، أي: سيدنا ومتولي أمرنا؛ {فانصرنا على القوم الكافرين} [البقرة: 286] بإقامة الحجة والغلبة في قتالهم؛ فإن شأن المولى أن ينصر مواليه على الأعداء، فاستجاب الله لهم، فقال: «نعم»، أي: قد فعلت
وهذا من عظيم فضل الله على المؤمنين الذين يخضعون لأمره، ويسلمون لحكمه، أما الذين قالوا: سمعنا وعصينا، فقد حمل الله عليهم الإثم والذنب وعاقبهم به في الدنيا قبل الآخرة
وقد أكرم الله هذه الأمة بما لم يكرم به من قبلها، وثبت إيمان الصحابة رضوان الله عليهم، وأحسن إليهم، وأثنى عليهم بقوله: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة: 285].
وفي الحديث: شدة تعظيم الصحابة رضي الله عنهم لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم
وفيه: أن الله سبحانه وتعالى لا يحملنا ما لا طاقة لنا به، ولا يكلفنا إلا وسعنا، وأن الوساوس التي تجول في صدورنا إذا لم نركن إليها، ولم نطمئن إليها، ولم نأخذ بها -فإنها لا تضر
وفيه: أن الله تجاوز عن الأمة ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به
وفيه: ثبوت النسخ في القرآن الكريم، وأن من القرآن ما يقرأ ولكن نسخ حكمه فلا يعمل به