التلبية فيه
سنن النسائي
أخبرنا إسحق بن إبراهيم، قال: أنبأنا عبد الله بن رجاء، قال: حدثنا موسى بن عقبة، عن محمد بن أبي بكر وهو الثقفي، قال: قلت لأنس، غداة عرفة: ما تقول في التلبية في هذا اليوم؟ قال: «سرت هذا المسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان منهم المهل، ومنهم المكبر، فلا ينكر أحد منهم على صاحبه»
الحَجُّ رُكنٌ من أركانِ الإسلامِ، وهو عِبادةٌ عَظيمةٌ تَجتَمِعُ فيها كَثيرٌ مِن أنواعِ العِباداتِ، ولِمَنْ كان حَجُّهُ خالِصًا للهِ مُوافِقًا لهَدْيِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَضْلٌ كَبيرٌ عِندَ اللهِ تعالَى؛ فلذلك يَنبغِي مُراعاةُ آدابِ الحَجِّ كما علَّمَنا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ التابعيُّ محمَّدُ بنُ أبي بكرٍ الثَّقفيُّ أنَّه سَألَ أنَسَ بنَ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه عن الذِّكرِ المَشروعِ حِينَما يَدفَعُ الحُجَّاجُ مِن منًى إلى عرَفاتٍ، وكان هذا صَباحَ يومِ عرَفةَ، ويكونُ ذلك في اليومِ التاسعِ مِن ذي الحِجَّةِ، ومِنًى: وادٍ تُحيطُ به الجِبالُ، ويقَعُ شَرْقَ مكَّةَ، على الطَّريقِ بيْن مكَّةَ وجَبَلِ عَرَفةَ، ويَبعُدُ عن المسجدِ الحرامِ نحْوَ (6 كم) تَقريبًا، وفيه تُقامُ بَعضُ شَعائرِ الحجِّ؛ مِثلُ رمْيِ الجَمَراتِ. وعَرَفاتٌ: جَبَلٌ يقَعُ على الطَّريقِ بيْن مكَّةَ والطائفِ، ويَبعُدُ عن مكَّةَ حَوالَيْ (22 كم)، وعلى بُعدِ (10 كم) مِن مِنًى، و(6 كم) مِن مُزدلِفةَ، ويُقامُ عِندَه أهمُّ مَناسِكِ الحَجِّ، وهو الوُقوفُ بعَرَفةَ يومَ التاسعِ مِن شَهرِ ذي الحجَّةِ
فأخْبَرَه أنسٌ رَضيَ اللهُ عنه أنَّهم عندَما حَجُّوا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَجَّةَ الوداعِ في السَّنةِ العاشرةِ مِن الهِجرةِ كان بَعضُهم يُلبِّي، فيَقولُ: لَبَّيْك اللَّهُمَّ لَبَّيْك، ويَرفَعُ بها صَوتَه، ولا يُنكِرُ عليهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بيْنَما البَعضُ الآخَرُ كان يُكبِّرُ ويَقولُ: اللهُ أكبَرُ، ويَرفَعُ بها صَوتَه، ولا يُنكِرُ عليهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهذا إقرارٌ مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالذِّكرِ، سواءٌ كان بالتَّكبيرِ أو بالتَّلبيةِ. وقيل: المرادُ أنَّه يُدخِلُ شَيئًا مِن الذِّكرِ خِلالَ التَّلبيةِ، لا أنَّه يَترُكُ التَّلبيةَ بالكُلِّيَّةِ؛ لأنَّ المَرويَّ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه لم يَقطَعِ التَّلبيةَ حتى رَمَى جَمْرةَ العَقَبةِ. والتَّلبيةُ إنَّما تُشرَعُ للحاجِّ، وأمَّا لغَيرِ الحاجِّ في سائرِ البِلادِ فيُشرَعُ له التَّكبيرُ مِن صُبحِ يومِ عَرَفةَ عَقِيبَ الصَّلواتِ إلى صَلاةِ العَصْرِ مِن آخِرِ أيَّامِ التَّشريقِ
وفي الحَديثِ: دَليلٌ على أنَّ إظهارَ التَّكبيرِ يومَ عَرَفةَ مَشروعٌ، ولو كان صاحبُه مُحرِمًا قاصِدًا عَرَفةَ للوُقوفِ بها، مع أنَّ شِعارَ الإحرامِ التَّلبيةُ؛ ففيه: بَيانُ سَعةِ الأمرِ في الذِّكرِ يَومَ عَرَفةَ