باب أيام الجاهلية 2
بطاقات دعوية
عن قيس بن أبي حازم قال: دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها: زينب، فرآها لا تكلم، فقال: ما لها لا تكلم؟ قالوا: حجت مصمتة (24). قال لها: تكلمي؛ فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية. فتكلمت، فقالت: من أنت؟ قال: امرؤ من المهاجرين. قالت: أي المهاجرين؟ قال: من قريش. قالت: من أي قريش أنت؟ قال: إنك لسؤل، أنا أبو بكر. قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم. قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى. قال: فهم أولئك على الناس.
لقدْ هَدَم الإسْلامُ كُلَّ أُمورِ الجاهِليَّةِ، ودَعَواتِها، وعاداتِها الفاسِدةَ، فذهبَتِ الجاهِليَّةُ بعارِها وعَيْبِها، وأقامَ مُعتَقَداتِ الدِّينِ الصَّحيحِ، والعاداتِ الحَسَنةَ، والمَنهجَ القَويمَ.
وفي هذا الحَديثِ يَحْكي التَّابِعيُّ قَيسُ بنُ أبي حازمٍ أنَّ أبا بَكرٍ الصِّدِّيقَ رَضيَ اللهُ عنه دخَلَ على امْرأةٍ مِن «أحْمَسَ»، وهي: قَبيلةٌ مِن بَجِيلةَ، وليستْ مِنَ الحُمْسِ، واسمُها: زَينبُ بنتُ المُهاجرِ، والحُمْسُ: هم: قُرَيشٌ، وكِنانةُ، وجَديلةُ؛ سُمُّوا بذلك؛ لتَحَمُّسِهم وتَشَدُّدِهم في دِينِهم، فرَآها أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه صامِتةً لا تتَكلَّمُ، فسَأَلَ: ما لها لا تَتَكلَّمُ؟ فأجابوه: «حجَّتْ مُصْمِتةً»، أي: نذَرَت أنْ تحُجَّ وهي تارِكةٌ للكَلامِ، فأمَرَها بأنْ تتَكلَّمَ؛ فإنَّ تَرْكَ الكَلامِ لا يحِلُّ؛ لأنَّه مِن عَملِ الجاهِليَّةِ، وهي: المدَّةُ الَّتي كان النَّاسُ فيها على الشِّركِ قبْلَ مَجيءِ الإسْلامِ، وسُمِّيَت بها لكَثْرةِ جَهالاتِهم.
فتكلَّمَتِ المَرأةُ، فسَألَتِ الصِّدِّيقَ رَضيَ اللهُ عنه: مَن هو؟ ومِن أين؟ فأجابَها: امْرؤٌ مِنَ المُهاجِرينَ، فاتَّصفَ لها بصِفةٍ جَميلةٍ كافيةٍ، وقِدَمٍ في الإسْلامِ، فسَألَتْه: مِن أيِّ المهاجرينَ؟ فزادَها صِفةً أُخْرى خصَّتْه بالقُربِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّه مِن قُرَيشٍ، فسَألَتْه: مِن أيِّ قُرَيشٍ أنتَ؟ قال لها: «إنَّكِ لَسَؤولٌ»، أي: كَثيرةُ السُّؤالِ، وقدْ عرَف رَضيَ اللهُ عنه ما تُريدُ مِن سؤالِها، فقال: أنا أبو بَكرٍ، فلمَّا علِمَتْ أنَّه أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه صاحِبُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قنَعَت بفَتْواه الأُولى، ثمَّ بادَرَتْه بسُؤالٍ آخَرَ، وتلك المرَّةَ سؤالٌ في أمْرِ الدِّينِ، وليسَ عن شَخصِه، فسَألَتْه: ما بَقاؤُنا على هذا الأمرِ الصَّالحِ؟ أي: دِينِ الإسْلامِ الَّذي جاء اللهُ به بعْدَ الجاهِليَّةِ، وما اشتَمَلَ عليه مِن العَدْلِ، واجْتِماعِ الكَلمةِ، ونَصْرِ المَظْلومِ، تَقصِدُ صُورَتَه وأحْوالَه الَّتي كان عليها الإسْلامُ في عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأجابَها رَضيَ اللهُ عنه: بَقاؤُكم عليه ما استَقامَتْ بكم أئمَّتُكم؛ لأنَّ باسْتِقامَتِهم تُقامُ الحُدودُ، وتُؤخَذُ الحُقوقُ، ويُوضَعُ كلُّ شَيءٍ مَوضِعَه، والنَّاسُ على دِينِ مُلوكِهم؛ فالمُرادُ بالأئمَّةِ: وَليُّ الأمرِ ومَن يَنوبونَ عنه، ويَتوَلَّوْنَ أُمورَ النَّاسِ ومَصالِحَهم، فسَألَتْه: وما الأئمَّةُ؟ فقرَّبَ لها رَضيَ اللهُ عنه الإجابةَ تَلطُّفًا منه بها، فقال: أمَا كان لقَومِكِ رُؤوسٌ وأشْرافٌ يَأمُرونَهم فيُطيعونَهم؟ قالت: بَلى، قال لها: فهُمْ أولئكِ على النَّاسِ، فأكَّد رَضيَ اللهُ عنه أنَّ المُرادَ بالأئمَّةِ الزُّعماءُ والحُكَّامُ.
وفي الحَديثِ: النَّهيُ عن فِعلِ شَيءٍ مِن أفْعالِ الجاهِليَّةِ مُخالِفٍ لتَعاليمِ الإسْلامِ.
وفيه: إنْكارُ البِدْعةِ، حتَّى على مَن يظُنُّ أنَّ فِعلَه سُنَّةٌ.
وفيه: أهمِّيَّةُ اسْتِقامةِ الحُكَّامِ والرُّؤساءِ؛ لِما فيه منَ اسْتِقامةِ الرَّعيَّةِ، وأداءِ الحُقوقِ، ووَضعِ كلِّ شَيءٍ في مَوضِعِه.
وفيه: لا نَذْرَ في مَعْصيةٍ.
وفيه: الرِّفقُ بالسَّائلِ إذا كانت مَسائلُه فيما تَنفَعُ نفْسَه وغيرَه منَ المُسلِمينَ.