باب إجراء أحكام الناس على الظاهر وسرائرهم إلى الله تعالى 5

بطاقات دعوية

باب إجراء أحكام الناس على الظاهر وسرائرهم إلى الله تعالى 5

وعن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بعثا من المسلمين إلى قوم من المشركين ، وأنهم التقوا ، فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله ، وأن رجلا من المسلمين قصد غفلته . وكنا نتحدث أنه أسامة بن زيد ، فلما رفع عليه السيف ، قال : لا إله إلا الله ، فقتله ، فجاء البشير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله وأخبره ، حتى أخبره خبر الرجل كيف صنع ، فدعاه فسأله ، فقال : (( لم قتلته ؟ )) فقال : يا رسول الله ، أوجع في المسلمين ، وقتل فلانا وفلانا ، وسمى له نفرا ، وإني حملت عليه ، فلما رأى السيف ، قال : لا إله إلا الله . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أقتلته ؟ )) قال : نعم . قال : (( فكيف تصنع بلا إله إلا الله ، إذا جاءت يوم القيامة ؟ )) قال : يا رسول الله ، استغفر لي . قال : (( وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟ )) فجعل لا يزيد على أن يقول : (( كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة )) رواه مسلم .

جاء الإسلام ليحفظ على الناس أنفسهم ودماءهم، ويمنعهم من الاعتداء على بعضهم البعض بغير وجه حق، وشهادة المرء بالتوحيد تعني دخوله في الإسلام، وتحفظ دمه وماله وعرضه
وفي هذا الحديث يخبر التابعي صفوان بن محرز أن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أرسل إلى عسعس بن سلامة في زمن فتنة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما -التي وقعت سنة أربع وستين من الهجرة، وهي أيام حربه مع بني أمية- أن يجمع له نفرا من إخوانه -والنفر: من ثلاثة إلى عشرة- حتى يحدثهم، فلما اجتمعوا جاء إليهم جندب رضي الله عنه وكان عليه برنس أصفر، والبرنس: كل ثوب رأسه ملتصق به، وظاهره أنهم لما حضروا عند جندب جعلوا يتحدثون بينهم وبين بعضهم حتى يأتيهم ويدخل عليهم، فلما حضرهم رضي الله عنه، قال لهم: تحدثوا بما كنتم تتحدثون به، حتى دار الحديث عليهم واحدا واحدا، قيل: إنما أمرهم بذلك؛ لئلا يستوحشوا، فيقطعوا حديثهم بسبب حضوره حياء منه، فلما جاء دوره في الكلام كشف البرنس ونحاه عن رأسه، فقال: «إني أتيتكم ولا أريد أن أخبركم عن نبيكم»، إما أن تكون «لا» زائدة، والمعنى: أنه جمعهم لأجل أن يحدثهم بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يناسب زمن الفتن الذي يحضرونه واقتتال المسلمين فيما بينهم، وإما أن يكون المعنى: أنه جاءهم ولا يريد أن يخبرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل يعظهم، ويحدثهم بكلام من عند نفسه، ولكنه الآن سيزيدهم على ما كان نواه، فأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا من المسلمين إلى قوم من المشركين -وهم الحرقة من قبيلة جهينة، كما في الصحيحين من حديث أسامة رضي الله عنه- وأن الجيشين التقوا، وكان يوجد رجل محارب ماهر من المشركين إذا أراد أن يتوجه إلى رجل من المسلمين توجه إليه بمهارة وطلبه بعينه، فقتله، وأن رجلا من المسلمين توجه إلى ذلك الرجل المشرك منتظرا غفلته ليقتله، وكان الصحابة رضي الله عنهم يتحدثون أن ذلك الرجل المسلم هو أسامة بن زيد رضي الله عنهما، فلما رفع أسامة السيف على الرجل المشرك ليقتله قال الرجل قبل وصوله إليه: «لا إله إلا الله»، مع قرينتها، وهي «محمد رسول الله»؛ لأنه لا يتم الإيمان إلا بهما، فاقتصر الراوي على كلمة التوحيد اكتفاء بدلالتها عليها، فقتله أسامة رضي الله عنه، وقد ظن حين قتله أنه قال كلمة التوحيد اتقاء من السيف، ولما انتهت الحرب جاء المبشر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عما وقع في الجيش من الأمور؛ ليبين حكم ما فعل منها مما لم يتقدم فيه منه بيان، وأخبره متدرجا من أمر إلى آخر، حتى أخبره خبر أسامة رضي الله عنه كيف صنع، فدعاه صلى الله عليه وسلم، وسأله: «لم قتلته؟» فأجابه: يا رسول الله، إنه قد أوقع الوجع والنكاية في المسلمين، وقتل فلانا وفلانا، وسمى أناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر أنه شد عليه واجتهد في قتله، فلما رأى السيف وأيقن أنه مقتول قال: «لا إله إلا الله» ليقي نفسه من الموت، وفي رواية أخرى لمسلم عن أسامة رضي الله عنه: «إنما قالها خوفا من السلاح»، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟» إنكارا منه صلى الله عليه وسلم لقتله له بعد أن تلفظ بكلمة التوحيد.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟» وجعل لا يزيد على أن يقولها، أي: من يشفع لك ومن يحاج عنك ويجادل إذا جيء بكلمة التوحيد، وقيل لك: كيف قتلت من قالها وقد حصل له ذمة الإسلام وحرمته؟! فطلب أسامة رضي الله عنه أن يستغفر له النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزد على قوله له: «كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟» وعدم استغفار النبي صلى الله عليه وسلم له نوع من التأنيب له، وتخويف لغيره من المسلمين، وإن كان أسامة هو حب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما اشتهر عنه، إلا أنه صلى الله عليه وسلم أبى أن يستغفر له. وفي رواية البخاري عن أسامة رضي الله عنه: «فما زال يكررها علي، حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم»؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، فاستصغر ما سبق له قبل ذلك من عمل صالح في مقابلة هذه الفعلة لما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم من الإنكار الشديد
وفي الحديث: تسكين العالم والرجل العظيم المطاع وذي الشهرة للناس عند الفتن، ووعظهم، وتوضيح الدلائل لهم
وفيه: أن الأحكام يعمل فيها بالظواهر، وأن السرائر موكولة إلى الله سبحانه وتعالى
وفيه: حرمة دماء أهل التوحيد
وفيه: مشروعية اللوم والتعنيف والمبالغة في الوعظ عند الأمور المهمة
وفيه: أخذ الإمام على يد المخطئ أيا كانت مكانته عنده