باب {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون} 3
بطاقات دعوية
عن أنس رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد؛ انهزم الناس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبو طلحة بين يدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مجوب (37) عليه بحجفة له، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل، فيقول "انثرها لأبى طلحة". قال: ويشرف النبى - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبى أنت وأمى لا تشرف؛ يصيبك سهم من سهام القوم، نحرى دون نحرك، ولقد رأيت عائشة بنت أبى بكر وأم سليم، وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما (38)، تنقزان القرب على متونهما، [ثم 3/ 222] تفرغانه فى أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانه فى أفواه القوم،ولقد وقع السيف من يدي (39) أبي طلحة؛ إما مرتين وإما ثلاثا.
لا شكَّ أنْ مَعْصيةَ الرَّسولِ تَأْتي بالوَبالِ على المُسلِمينَ، فحِينَما عَصى الرُّماةُ يومَ أحُدٍ كَلامَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بنُزولِهم مِن فَوقِ الجَبلِ، استغَلَّ المُشرِكونَ هذا الأمرَ، وعادوا إلى المَعرَكةِ، واشتدَّ الأمرُ على المُسلِمينَ.
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي أنَسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لَمَّا انهَزَمَ النَّاسُ في غَزْوةِ أحُدٍ، والَّتي وقَعَت في السَّنةِ الثَّالثةِ مِن الهِجْرةِ بيْنَ مُشْرِكي مكَّةَ والمُسلِمينَ، وانهَزَمَ فيها المُسلِمونَ بسبَبِ مُخالَفةِ الرُّماةِ لأوامِرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَراجَعَ المُسلِمونَ، وانكشَفَ مَوقِعُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولم يَثبُتْ معَه وحَولَه إلَّا القَليلُ مِن المُهاجِرينَ والأنْصارِ، ومنهم طَلْحةُ بنُ عُبَيدٍ، وسَعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، وغَيرُهما، وكان أبو طَلْحةَ الأنْصاريُّ «مُجَوِّبًا به عليه»، أي: مُتَرِّسًا بحَجَفةٍ، والجَحَفةُ: التُّرسُ، أي: أنَّ أبا طَلْحةَ كان يَحْمي النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويَحجُزُه بتُرسٍ مِن جِلدٍ ليس فيها خشَبٌ، وكان أبو طَلْحةَ رَجلًا راميًا، أي: ماهِرًا في رَميِ السِّهامِ بالقَوْسِ، شَديدَ القِدِّ، أي: شَديدَ وتَرِ القَوْسِ في النَّزعِ والمَدِّ، فكسَرَ يومَئذٍ قَوسَينِ أو ثَلاثًا، وكان الرَّجلُ يمُرُّ بأبي طَلْحةَ ومعَه الجَعْبةُ -وهي الكِنانةُ والكِيسُ- مِن السِّهامِ، فيَقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «انشُرْها»، أيِ: انثُرْها على الأرضِ وأَعِدَّها لأبي طَلْحةَ؛ ليَرْميَ بها، فأشرَفَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أيِ: اطَّلعَ مِن فوقُ، يَنظُرُ إلى القَومِ وهم يَرْمونَ، فيقولُ له أبو طَلْحةَ: يا نَبيَّ اللهِ، بأبي أنتَ وأمِّي، لا تُشرِفْ، أي: أفْديكَ بأبي وأمِّي، لا تَطَّلعْ عليهم مِن فوقُ، فيُصيبُكَ سَهمٌ مِن سِهامِ الأعْداءِ، ولكنْ نَحْري دُونَ نَحرِكَ، أي: أقِفُ أنا بحيث يكونُ صَدْري كالتُّرسِ والحِمايةِ لصَدرِكَ.
ثمَّ ذكَر أنَسٌ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه رَأى أمَّ المؤمِنينَ عائشةَ بنتَ أبي بَكرٍ، وأُمَّ سُلَيمٍ زَوجَ أبي طَلْحةَ مُشمِّرَتينِ أثْوابَهما، يَرى خدَمَ سُوقِهما، والسُّوقُ جَمعُ ساقٍ، وخَدَمُ السُّوقِ: الخَلْخالُ، أو أصْلُ السَّاقِ، وكان ذلك قبْلَ نُزولِ الحِجابِ، وكانَتا تَنْقُزانِ، مِنَ النَّقْزِ، وهو الوَثْبُ والإسْراعُ في المَشيِ. وقولُه: «على مُتونِهما»، أي: تَحْمِلانِ القِرَبَ على ظُهورِهما، وكانَتا تُفرِغانِ الماءَ في أفْواهِ القَومِ، أي: مِن المُسلِمينَ ليَشْرَبوا، ثمَّ تَرجِعانِ فتَمْلآنِها، ثمَّ تَجيئانِ فتُفرِغانِها.
ولقد وقَعَ السَّيفُ مِن يدَيْ أبي طَلْحةَ؛ إمَّا مرَّتَينِ وإمَّا ثَلاثًا، وزادَ مُسلِمٌ في رِوايتِه: «منَ النُّعاسِ»، وهو النَّومُ الَّذي أصابَهم، كما قال اللهُ تعالَى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} [آل عمران: 154]، وهو الَّذي مَنَّ اللهُ به على أهلِ الصِّدقِ واليَقينِ مِن المؤمِنينَ يومَ أحُدٍ.
وفي الحَديثِ: فِداءُ الصَّحابةِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأرْواحِهم، وشدَّةُ تَعلُّقِهم به صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: أنَّ للمَرأةِ دَوْرًا في حَياةِ المُسلِمينَ، حتَّى في الجِهادِ.
وفيه: فَضلٌ ومَنقَبةٌ لأبي طَلْحةَ رَضيَ اللهُ عنه.
وفيه: الحَثُّ على تَعلُّمِ الرَّميِ وفُنونِ القِتالِ.
وفيه: أنَّ الشُّجاعَ يُؤخَذُ له سِلاحُ غيرِه.