باب: الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول 2
بطاقات دعوية
عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - جالس في ظل الكعبة والناس مجتمعون عليه فأتيتهم فجلست إليه فقال كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه ومنا من ينتضل (1) ومنا من هو في جشره (2) إذ نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة جامعة فاجتمعنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضا (3) وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه هذه فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر فدنوت منه فقلت له أنشدك الله آنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال سمعته أذناي ووعاه قلبي فقلت له هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا والله عز وجل يقول (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) قال فسكت ساعة ثم قال أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله. (م 6/ 18
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُعلِّمًا مُربِّيًا، وكان يَغتنِمُ الفُرصَ والأوقاتَ ليَعِظَ أصحابَه ويُعلِّمَهم أُمورَ الدِّينِ، ويُنذِرَهم ويُحذِّرَهم مِن المِهلكاتِ والفِتنِ، ويُعلِّمَهم سُبلَ الخلاصِ منها مع الحفاظِ على الدِّينِ وعلى المجتمَعاتِ.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي التَّابعيُّ عبدُ الرحمنِ بنُ عبدِ ربِّ الكَعْبَةِ أنَّه دَخلَ المسجدَ الحرامَ، فوَجَد الصَّحابيَّ عبدَ اللهِ بنَ عَمْرٍو رَضيَ اللهُ عنهما جالسًا في ظِلِّ الكَعبةِ، والنَّاسُ مُجتمِعُونَ حولَهُ يَسْألونه ويَتعلَّمون منه حَديثَ وسُنَّةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَذهَبَ إليهم، وجَلَس في مَجلِسِهم، فأخبَرَ عبدُ الله بنُ عَمْرٍو رَضيَ اللهُ عنهما أنَّه وأصحابَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانوا مع رسولِ الله في سَفَرٍ، فنَزَلوا مَكانًا للاستراحةِ مِن تَعَبِ السَّفرِ، وأخَذَ النَّاسُ أماكنَهم للرَّاحةِ وإصلاحِ شُؤونِهم، فكان مِن النَّاسِ مَن يُصْلِحُ «خِباءَهُ» وهو الخَيْمَةُ وما يُشْبهها، وكان يُصْنَعُ من صُوفٍ أو وَبَرٍ -وهو شَعَرُ الإبلِ- فكان يَعُدُّها ويُهيِّئُها للرَّاحةِ، وكان منهم مَنْ يَنْتَضِلُ، أي: يَرمي بالسِّهامِ تَدرُّبًا، وكان منهم مَنْ هو في جَشَرِهِ، وهي: الدَّوابُّ الَّتي تُرعى ثمَّ تَبِيتُ في مَكانِها، يُرِيد أنَّهم أخرَجوا دَوابَّهُم منَ المكانِ الَّذِي نَزلوه لِتَرعى، وبيْنما هُم على تلك الحالِ وتَفرُّقِ القومِ في حَوائجِهم، إذْ نادى عليهم مُنادي رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «الصَّلاةُ جامِعةٌ» وهو أمرٌ بالحضورِ للصَّلاةِ، فاجْتَمَع النَّاسُ إلى رسولِ اللهِ، فأخبَرَهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه لمْ يوجَدْ نَبِيٌّ قَبْله إلَّا كان حقًّا عليه أنْ يَدُلَّ أُمَّته على خيرِ ما يَعلَمُهُ لهم، فيُبيِّنَ لهم أعمالَ الطَّاعاتِ والبِرِّ وما فيه صَلاحُ دِينِهم ودُنْياهم؛ لِيَأتوه ويَأتَمِروا به، «ويُنْذِرَهم شَرَّ ما يَعلَمُهُ لهم» فيُبيِّنَ لهم المعاصيَ وما فيه شَرٌّ على دِينِهم ودُنْياهم؛ لِيَحذَروه ويَنتهَوا عنه؛ لأنَّ ذلكَ مِن التَّبليغِ والبيانِ الَّذي أُمِروا به مِن اللهِ عزَّ وجلَّ، «وإنَّ أُمَّتَكم هذِهِ» يعني أُمَّةَ الإسلامِ، «جُعِلَ عافِيَتُها»، أي: سلامَتُها منَ الفِتنِ واستقامتُها واجتماعُ كَلمتِها في أوَّلِها، وهو زمنُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والخُلفاءِ الثَّلاثةِ إلى قتلِ عُثْمَانَ بنِ عفَّانَ رَضيَ اللهُ عنه، وقيل: إنَّ ابتداءَ الفتنِ كان بمَقتلِ عُمرَ بنِ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه، فهذه الأزمنةُ كانت أزمنةَ اتِّفاقِ هذه الأُمَّةِ واستقامةِ أمْرِها وعافيةِ دِينِها، فلمَّا قُتِل عُثمانُ رَضيَ اللهُ عنه هاجَتِ الفِتنُ وتَتابَعَت، ثمَّ لم تَزَلْ ولا تَزالُ مُتواليةً إلى يومِ القيامةِ، ويَحتَمِلُ أنْ يُرادَ بالأوَّلِ زَمنُ الصَّحابةِ والتَّابعينَ وبالآخِرِ ما بَعدهُما، «وسيُصيبُ آخِرَها بَلاءٌ» وهو المِحنةُ والمُصيبةُ، «وأُمورٌ تُنْكِرونها» مِن البِدعِ والخُرافاتِ؛ وذلك لأنَّها تُخالِفُ الشَّرعَ، ثمَّ «تَجيءُ فِتَنٌ يُرَقِّقُ بعضُها بعضًا» فيَصيرُ بعضُها وأوَّلُها خَفيفًا بالنِّسبةِ لعِظَمِ وهَولِ ما بعدهُ، وتَجيءُ الفِتنةُ العَظيمةُ في الدِّينِ فَيقولُ المُؤمنُ: «هذه مُهْلِكَتِي»، أي: السَّبب في هَلاكي، ثمَّ تَذهبُ وتَنفَرِجُ عنه تلكَ الفِتنةُ الَّتي خافَ منها الهلاكَ، وتَجِيءُ بعدَها فِتنةٌ أُخرى فَيقولُ المُؤمنُ: «هذه هذه»، أي: هذه الفِتنةُ هي الفِتنةُ العُظْمَى، وقِيل: معنى قولِه: «هذه هذه» أي: هذه مُهلِكَتي، هذه مُهلِكَتي، كَرَّره للتَّأكيدِ.
ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «فمَنْ أحَبَّ أنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ» أي: يُبعَدَ عنها ولا يَدخُلَها يومَ القيامةِ، ويُريدُ أنْ يَدخُلَ الجنَّةَ؛ فلْيَأتِهِ الموتُ وهو يُؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ، وذلك بالمُداوَمةِ على الإيمانِ حتَّى يأتِيَهِ الموتُ، وليعامل الناسَ في كلِّ أُمورِه بما يُحِبُّ أن يُعامِله الناسُ بِه، ولْيَجِئْ إليهم بحُقوقِهم مِن النُّصحِ والنِّيَّةِ الحَسنةِ بمِثلِ الَّذي يُحِبُّ أنْ يُجاءَ إليه به، قيل: المقصودُ بالنَّاسِ هنا الأئمَّةُ والأُمراءُ؛ فيَجِبُ عليه لهم السَّمعُ والطَّاعةُ والنُّصرةُ والنَّصيحةُ مِثلَ ما لوْ كان هو الأميرَ لَكان يُحِبُّ أنْ يُجاءَ له به.
ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ومَنْ بايعَ إمامًا» فعاهَدَه على الإمامةِ له «فأعطاهُ صَفْقَةَ يدهِ»، والصَّفْقَةُ ضَرْبُ اليدِ على اليدِ في مُعاهدتِه والتزامِ طاعتِه، وكانتْ تلك عادةَ العربِ في المعاهَداتِ، وأيضًا أعطى هذا الحاكمَ ثَمرةَ قَلبهِ، فصَدَقَ في نِيَّتِه في البيعةِ، فبايَعَه بيَدِه وأحَبَّه بقَلبِه، فليُطِعْهُ إنِ اسْتطاعَ، وذلك فيما يُطِيقُه، وهذا يدُلُّ على أنَّه لا بُدَّ مِن الْتزامِ البَيعةِ بالقلبِ وتَركِ الغِشِّ والخديعةِ، ولا بُدَّ فيها مِن النِّيَّةِ الصَّحيحةِ والنَّصيحةِ.
فإنْ جاءَ وظَهَر رجُلٌ آخَرُ خرجَ عنْ طاعةِ الأوَّلِ ونازَعَهُ في المُلكِ، فاضْرِبوا عُنُقَ الآخَرِ، ولو بأنْ تُحارِبوه وتُقَاتِلُوه إنْ لم يَندَفِعْ إلَّا بحَربٍ وقِتالٍ؛ لأنَّه خارجٌ على الإمامِ، ولا ضَمانَ فيه؛ لأنَّه ظالمٌ مُتعَدٍّ في قِتالِه.
فاقْتربَ عبدُ الرحمنِ بنُ عبدِ رَبِّ الكَعبةِ منْ عبدِ الله بنِ عَمْرٍو رَضيَ اللهُ عنهما وقال له: «أنْشُدُكَ الله» أي: أسألكَ بالله، أأنت سَمِعْتَ هذا الحَديثَ منَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ واسْتِحلافُ عبدِ الرَّحمنِ لعبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رَضيَ اللهُ عنهما زيادةٌ في الاستيثاقِ لا أنَّه كذَّبَه ولا اتَّهَمَه، فَأهْوَى عبدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو رَضيَ اللهُ عنهما بيَدِه وأشارَ إلى أُذُنيهِ وقَلبهِ، وقال: سَمِعَتْهُ أُذُنايَ وَوَعَاهُ قَلبي، أي: حَفِظَهُ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال عبدُ الرَّحمنِ لِعبدِ اللهِ بنِ عمرٍو: «هذا ابنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ يأمُرُنا أنْ نَأكُلَ أموالَنا بينَنَا بالباطلِ» بغيرِ حقٍّ، «ونقتُلَ أنْفُسَنا» فيَقتُلَ بعضُنا بعضًا بغيرِ حقٍّ، واللهُ يقولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]؛ وذلكَ اعْتِقادًا مِن ابنِ عبدِ رَبِّ الكَعبةِ أنَّ هذا الوصفَ مَوجودٌ في مُعَاوِيَةَ رَضيَ اللهُ عنه لمُنازَعَتِهِ عَليًّا رَضيَ اللهُ عنه، وكانتْ قدْ سَبقتْ بَيْعَةُ عَليٍّ، فَرأى أنَّ نَفقةَ مُعَاوِيَةَ على أجْنَادِهِ وأتباعِهِ في حربِ عَليٍّ، وَمُنازعتَه ومُقاتَلتَه إيَّاهُ منْ أكلِ المالِ بالباطلِ ومِنْ قَتْلِ النَّفْسِ؛ لأنَّه قِتالٌ بغيرِ حَقٍّ فلا يَسْتَحِقُّ أحدٌ مالًا في مُقاتلتِهِ.
فسَكَتَ عبدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو رَضيَ اللهُ عنهما عن جَوابِ سُؤالِه وَقتًا مِن الزَّمانِ يَتفكَّرُ، ثُمَّ قال لِعبدِ الرَّحمنِ: أطِعْهُ إذا ما أطاعَ الله، ولا تُطِعْهُ إذا ما عَصى اللهَ أو أمرَ بِمعصيَتِهِ؛ لأنَّه لا طاعةَ لمَخلوقٍ في مَعصيةِ اللهِ.
وفي الحَديثِ: دَلالةٌ مِن دَلائلِ نُبوَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ حيث أخبَرَ ببَعضِ ما سيَقَعُ.
وفيه: طاعةُ الإمامِ وقِتالُ مَنْ خَرَجَ عليه.
وفيه: اخْتِلافُ الأفهامِ في تَوجيهِ النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ؛ فلذلك يَجِبُ رَدُّ الأمرِ إلى العُلماءِ.