باب الاستواء للجلوس عند الرفع من السجدتين 2
سنن النسائي
أخبرنا علي بن حجر، قال: أنبأنا هشيم، عن خالد، عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي جالسا»
كان الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم أشدَّ الناسِ حِرصًا على تَعليمِ المسلِمينَ أُمورَ دِينِهم، وكانتِ الصَّلاةُ في ذِروةِ هذا الحِرصِ، وفي أُولى اهتِماماتِهِم
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ التَّابعيُّ أبو قِلابَةَ عَبْدُ اللهِ بنُ زَيدٍ الجَرْميُّ البَصرِيُّ، أنَّ الصَّحابيَّ مالكَ بنَ الحُوَيرثِ رَضيَ اللهُ عنه جاءهُمْ في مَسجدِهم يُعلِّمُهم صِفةَ صَلاةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَيانًا عَمَليًّا، قيل: إنَّ المسجِدَ المقصودَ هوَ مَسجدُ البَصرةِ حيثُ كانَ يَعيشُ. فقال لهم مالِكُ بنُ الحُوَيْرِثِ رَضيَ اللهُ عنه: «إنِّي لأُصلِّي بِكُمْ وَما أُرِيدُ الصَّلاةَ»، يعني: إنِّي لا أَقصِدُ بتلك الصَّلاةِ التي أُصلِّيها بكمُ الآنَ صَلاةً بعَينِها، وقيل: معناهُ: إنِّي لا أُصلِّي بكم قاصدًا الإمامةَ، وإنَّما أُصلِّي بِكم كَما رأيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُصلِّي؛ لأُعلِّمَكمْ كَيفيَّةَ صَلاتِهِ بالفِعلِ لا بِالقوْلِ؛ فقصَدَ مالكُ بنُ الحُوَيرثِ رَضيَ اللهُ عنه تَعليمَهم صِفةَ صَلاةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولم يكُنْ تَعليمُه هذا في وَقتِ الصَّلاةِ قاصِدًا صَلاةً بِعَينِها، أو قاصدًا إمامتَهم، بلْ كانت صَلاتُه صَلاةَ تَطوُّعٍ بقَصْدِ التَّعليمِ، ليستْ بفَرْضٍ ولا نافلةٍ.وفي مَوضعٍ آخَرَ ذَكَرَه البُخاريُّ، فصَّلَ أبو قِلابةَ في وَصْفِ صَلاةِ مالكِ بنِ الحُوَيرثِ، قال: «فقام فأمْكَنَ القيامَ، ثمَّ ركَعَ فأمْكَنَ الرُّكوعَ، ثمَّ رفَعَ رَأْسَه فأنْصَبَ هُنَيَّةً»، ومعناه: قام ووَقَفَ مُنتصِبًا انتصابًا كاملًا، ثمَّ ركَعَ فجَعَلَ ظَهْرَه مُستويًا، حتَّى لو صُبَّ عليه الماءُ لَاستقَرَّ على ظَهْرِه، كما في حَديثِ وابصةَ بنِ مَعبَدٍ رَضيَ اللهُ عنه عندَ ابنِ ماجه، ثمَّ رَفَعَ رَأسَه مِن الرُّكوعِ فانتَصَبَ واقفًا ورجَعَ إلى الهَيئةِ التي كان عليها قبْلَ رُكوعِه، ووَقَفَ هُنيَّةً، يعني: وقَفَ قَدْرًا يَسيرًا بيْن رُكوعِه وسُجودِه.ثمَّ أخبَرَ أبو قِلابةَ أيُّوبَ السَّخْتِيانيَّ -الذي يَرْوي عنه الحديثَ- عندَما سَأَلَه: كيف كانتْ صَلاتُه؟ أنَّ صَلاةَ مالكِ بنِ الحُوَيرثِ رَضيَ اللهُ عنه تُشبِهُ في هَيئتِها تلك الصَّلاةَ التي يُصلِّيها شَيخُهم، يُشيرُ بذلك إلى الصَّحابيِّ أبي بُرَيدٍ عمْرِو بنِ سَلِمةَ الجَرْميِّ، وكان شَيْخًا كبيرَ السِّنِّ، وكانَ يَجلِسُ في الصَّلاةِ بعدَ أداءِ سُجودِ الرَّكعةِ الأُولى وقبْلَ أنْ يَقومَ للرَّكعةِ الثانيةِ، وهذه الجِلسةُ هي التي تُسمَّى جِلسةَ الاستراحةِ، وقدْ صرَّحَ مالكُ بنُ الحُوَيْرِثِ رَضيَ اللهُ عنه في حديثٍ آخرَ عندَ البُخاريِّ: «أنَّهُ رأَى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُصلِّي ويَجلِسُ إذا كانَ في وِتْرٍ مِن صَلاتِهِ»، يعني يَجلِسُ جِلسةَ الاستراحةِ هذه في الرَّكعاتِ الوتريَّةِ مِن صَلاتِه؛ إذا انْتَهى مِن الأُولى قبْلَ القيامِ للثَّانيةِ، وإذا انْتَهى مِن الثالثةِ قبْلَ القيامِ للرَّابعةِ. قيل: إنَّ تلك الجِلْسةَ هي إتمامٌ للرَّكْعةِ، وقيل: إنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فعَلَها لعارِضٍ؛ إِمَّا لكِبَرِ سِنٍّ أو لمَرَضٍ، وقيل: هي مَقصودةٌ في الصَّلاةِ ولكنَّها خَفيفةٌ
وفي الحديثِ: الحثُّ على التَّعليمِ والتَّعلُّمِ
وفيه: مَشروعيَّةُ جِلسةِ الاستراحةِ