باب الحث عَلَى الازدياد من الخير في أواخر العمر 2
بطاقات دعوية
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ عمر - رضي الله عنه - يُدْخِلُنِي مَعَ أشْيَاخِ بَدرٍ فكأنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ في نفسِهِ، فَقَالَ: لِمَ يَدْخُلُ هَذَا معنا ولَنَا أبْنَاءٌ مِثلُهُ؟! فَقَالَ عُمَرُ: إنَّهُ منْ حَيثُ عَلِمْتُمْ! فَدعانِي ذاتَ يَومٍ فَأدْخَلَنِي مَعَهُمْ فما رَأيتُ أَنَّهُ دعاني يَومَئذٍ إلَاّ لِيُرِيَهُمْ، قَالَ: مَا تقُولُون في قولِ الله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ}؟ [الفتح: 1] فَقَالَ بعضهم: أُمِرْنَا نَحْمَدُ اللهَ وَنَسْتَغْفِرُهُ إِذَا نَصَرنَا وَفَتحَ عَلَيْنَا، وَسَكتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيئًا. فَقَالَ لي: أَكَذلِكَ تقُول يَا ابنَ عباسٍ؟ فقلت: لا. قَالَ: فما تقول؟ قُلْتُ: هُوَ أجَلُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلَمَهُ لَهُ، قَالَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} وذلك علامةُ أجَلِكَ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} فَقَالَ عمر - رضي الله عنه: مَا أعلم مِنْهَا إلَاّ مَا تقول. رواه البخاري. (1)
كان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من الراسخين في العلم، وكان منذ صغره يقدم على غيره من أبناء سنه
وفي هذا الحديث يخبر ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يدخله عليه في مجلسه للمشورة والرأي مع أشياخ بدر رضي الله عنهم الذين حضروا غزوتها، وهم أصحاب المكانة والرأي والمشورة والمقدمون على غيرهم، ودخوله معهم بيان لمقامه ومكانته عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكأن بعضهم وجد -أي غضب- في نفسه لصغر سن ابن عباس رضي الله عنه، حتى عبر عنه بقوله: «لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟!» أي: في عمره، أو مثله في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم. والمراد: أنه شاب ونحن شيوخ، وقيل: إن القائل كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه
فأجاب عمر رضي الله عنه بقوله: «إنه من قد علمتم»، يشير إلى قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يشير إلى معرفته وفطنته وسعة علمه
ثم أراد بيان مزيد منزلته بإظهار كثرة علمه المقتضي لتقدمه؛ فدعاه عمر رضي الله عنه ذات يوم فأدخله مع أشياخ بدر، ويخبر ابن عباس رضي الله عنهما أنه ما ظن أن دعوة عمر له إلا ليريهم معرفته وعلمه
فلما اجتمعوا وجه عمر رضي الله عنه إلى أشياخ بدر سؤالا يظهر به علم ابن عباس رضي الله عنهما؛ فسألهم رضي الله عنه عن تفسير سورة النصر: {إذا جاء نصر الله والفتح}، ففسره بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا على عدونا، وفتح علينا المدائن، ففسروا الخطاب في السورة أنه موجه لجميع الأمة. وسكت بعضهم فلم يقل شيئا.
فسأل عمر رضي الله عنه ابن عباس رضي الله عنهما: أتقول مثل قولهم؟ قال ابن عباس: لا، فقال له عمر: فما تقول؟ قال ابن عباس: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، أي: موعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلامة أجله، قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح} [النصر: 1]؛ فإذا جاءت هذه العلامة فافعل كما أمرك الله سبحانه وتعالى في قوله: {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} [النصر: 3]، فأكد عمر رضي الله عنه على تفسير ابن عباس للسورة، وأنه لا يرى لها تفسيرا غير هذا
وفي الحديث: فضيلة ظاهرة لابن عباس رضي الله عنهما، وأثر واضح لإجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه الله التأويل، ويفقهه في الدين
وفيه: أن الرأي والفهم والعلم غير مرتبط بالسن، وأن على أولياء أمور المسلمين تقديم النابهين من الشباب، والأخذ بآرائهم وأفكارهم