باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في أكفانه
بطاقات دعوية
عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه خرَجَ وعُمَرُ رضي الله عنه يكلِّمُ الناسَ، فقالَ: اجلِسْ، فأَبى، فقالَ: اجلِس، فأَبى، فتشهَّدَ أبو بكرٍ رضي الله عنه، فمالَ إليهِ الناسُ، وتركوا عُمَرَ، فَقَالَ: أمَّا بعدُ؛ فَمنْ كانَ منكم يعبُدُ محمَّداً؛ فإنّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد مات، ومن كان يعبدُ الله؛ فإنّ الله حيٌّ لا يموتُ، قالَ الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} إلي {الشَّاكِرِينَ}، واللهِ لكأنَّ الناسَ لم يكونوا يَعلَمونَ أنَّ الله أَنزلَ الآيةَ حتى تلاها أبو بكرٍ رضي الله عنه، فتلقَّاها منه الناس، فما يُسمَعُ بَشَرٌ إلا يَتلوها.
الثَّباتُ عندَ المُلِمَّاتِ وحُسنُ التَّصرُّفِ فيها خُلقٌ عَظيمٌ، مَن حازَهُ فقدْ أُعطِيَ خَيرًا كَثيرًا، غيرَ أنَّ أقدارَ الناسِ فيه مُتفاوِتةٌ، ولقد أُوتِيَ أصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ منه حَظًّا كَبيرًا، وتَفاوَتَت أقْدارُهم فيه أيضًا، وقد ظَهَرَ هذا التَّفاوُتُ في مَوقفِهم يومَ وَفاةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان أعظمَهم ثَباتًا أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رَضيَ اللهُ عنه، كما يبيِّنُ هذا الحَديثُ، حيثُ يَحكي عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه خرَجَ مِن حُجرةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعْدَ وَفاتِه، فوَجَدَ عُمرَ بنَ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه يَنْفي مَوتَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ويُكلِّمُ النَّاسَ ويَقولُ لهم: ما مات رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ! فأمَرَه أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه بالجُلوسِ، فرفَضَ عمَرُ، فبَدَأَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه بالكَلامِ، فقال: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا رَسولُ اللهِ، فالْتَفَّ النَّاسُ حَوْلَه وتَرَكوا عُمَرَ، فأخبَرَهُم أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد مات حَقيقةً، فقال: مَن كان يَعبُدُ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فإنَّ محمَّدًا قد مات، ومَن كان يَعبُدُ اللهَ فإنَّ اللهَ حَيٌّ لا يَموتُ، ثمَّ تَلا لهم قولَ اللهِ تعالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، وفي الآيةِ تَحذيرٌ للمُسلِمينَ أنْ يكونَ في مَوتِ رَسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فِتنةٌ تَجعَلُهم يَرْتدُّون عن دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فلمَّا سَمِع النَّاسُ منه ذلك كأنَّهم لم يَكونوا يَعلَمون بنُزولِها، وكأنَّها أُنزِلَت الآنَ؛ بسَببِ ما همْ فيه مِن الحُزنِ، فتَلَقَّاها منه النَّاسُ، وأخَذَ يَتْلوها كلُّ واحدٍ منهم.
وفي الحديثِ: أنَّ الصِّدِّيقَ أبا بَكرٍ أعلَمُ وأفضلُ مِن عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما، فهذه إحدَى المسائلِ التي ظَهَرَ فيها ثاقِبُ عِلمِه، وفَضْلُ مَعرفتِه، ورَجاحةُ رَأْيِه.
وفيه: أنَّ مَن كان في أمرٍ مُهمٍّ وأرادَ الإفصاحَ به، فتَكلَّمَ إنسانٌ بحَضرتِه، فسَكَّتَه فلمْ يَسكُتْ: أنَّه لا يَشغَلُ الوَقتَ بالاشتِغالِ بمُجادلتِه وتَسكيتِه، بل يَعدِلُ هو إلى ذِكر ما يَعلَمُه كما فعَل أبو بَكرٍ مع عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما.
وفيه: تنبيهٌ على فَضيلةِ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه بما قالَه في البَديهةِ، وما استشهَدَ به مِن كِتابِ اللهِ تعالَى.
وفيه: أنَّ الناسَ تَغيبُ عنهم معاني القُرآنِ عِندَ الحَوادثِ، فإذا ذُكِّروا بها عرَفُوها.