باب العزلة1
سنن ابن ماجه
حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، أخبرني أبي، عن بعجة بن عبد الله بن بدر الجهني
عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير معايش الناس لهم، رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه، يبتغي الموت والقتل مظانه، ورجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعاف، أو بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير" (1)
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يدُلُّ النَّاسَ على ما فيه صَلاحُ ورِفعةُ شَأنِهم في الدُّنيا والآخرةِ، فكان يَحُثُّ على مُجاهَدةِ أعداءِ الدِّينِ، وعلى مُجاهَدةِ النَّفسِ والشَّيطانِ، والإعراضِ عن استيفاءِ اللَّذَّاتِ العاجلةِ؛ حتَّى يكونَ للإنسانِ نَصيبٌ وافرٌ مِن دَرَجاتِ الآخرةِ.
وفي هذا الحديثِ يُبيِّنُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ مِن أفضَلِ وأشرَفِ طُرقِ المعاشِ في الدُّنيا الجهادَ في سَبيلِ اللهِ، وعبَّرَ عنه بقولِه: «رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِه»، أي: ممسك لِجَامَه وزِمَامَه، يُرِيدُ أنَّه مُراقِبٌ لِحَرَكاتِ العَدُوِّ ومُتأهِّبٌ لِلقائِه ومُستَعِدٌّ لِقتالِه؛ «يَطِيرُ على مَتْنِه»، أي: يُسرِعُ راكبًا على ظَهرِه للجهادِ في سَبيلِ اللهِ، «كُلَّمَا سِمِعَ هَيْعَةً»، أي: صَيْحَةً وصَوتًا، أو سَمِعَ «فَزْعَةً»، أي: استِغاثَة؛ «طارَ عليه»، أي: أسرَعَ راكبًا على ظَهْرِ فَرَسِه طائِرًا إلى مَصدرِ الصَّوتِ والاستغاثةِ، وهذا يدُلُّ على أنَّه في حالِ تَأهُّبٍ دائمٍ، وعلى شِدَّةِ اهتمامهِ بما هو فيه مِن المجاهَدةِ في سَبيلِ اللهِ تعالَى، «يَبتغِي القَتْلَ والموتَ مَظَانَّه»، أي: لا يُبالِي ولا يَحْتَرِزُ منه، بل يَطلُبُه في مَواطنِه الَّتي يُرْجى فيها؛ لشِدَّةِ رَغبتِه في الشَّهادةِ.
والنَّوعُ الثَّاني الَّذي هو مِن أفضَلِ ما يَطلُبُ به الرِّجالُ المعايشَ: هو ما يَفعَلُه رَجُلٌ في «غُنَيْمَةٍ» تَصغيرُ غَنَمٍ، والمعنى: يَرْعى بقَطيعٍ صَغيرٍ مِن الغنَمِ، وهذا إشارةٌ لضَعفِ رَغبتِه في الدُّنيا، فعِنده مِن الغنَمِ ما يُقِيمُ به عَيْشَه وحَياتَه، «في رأسِ شَعَفَةٍ مِن هذه الشَّعَفِ» وهو رأسِ الجَبَلِ، يعني أنَّه يُقيمُ في أعالي الجبالِ، أو يُقيمُ في بُطونِ الأَوْدِيَةِ، وهذا كلُّه وصْفٌ لقَناعةِ هذا الرَّجلِ؛ فإنَّه قَصَد بسَكَنِه هذا الابتعادَ والاعتزالَ عن النَّاسِ، مع اشتغالِه بعِبادةِ ربِّه سُبحانه، «فيُقِيمُ الصَّلاةَ» في مَواقيتِها، «ويُؤتِي الزَّكاةَ» مُستحِقِّيها إنْ كان ممَّن مَلَك نِصابَها واستُحقَّتْ عليه بشُروطِها، «ويَعبُدُ ربَّه حتَّى يَأتِيَه اليَقِينُ» وهو الموتُ؛ سُمِّيَ بذلكَ لأنَّه لا شَكَّ في تحقيقِ وُقوعِه.
ثمَّ أخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه ليْس لهذا الرَّجلِ اجتماعٌ مع النَّاسِ، ولا اختلاطَ بهِم إلَّا فيما كان خَيرًا، كالجماعةِ، والجُمعةِ، والعِيدينِ، وصَلاةِ الجنازةِ، وعِيادةِ المريضِ، وتَشييعِ الجنازةِ، ونحْوِ ذلك مِن أنواعِ الخيراتِ، والحاصلُ أنَّه مُعتزِلٌ عن النَّاسِ إلَّا فيما هو خَيرٌ مَحْضٌ، وهذه العُزلةُ المذكورةُ في هذا الحديثِ لَيْست رَهبانيَّةً مِثلَ رَهبانيَّةِ النَّصارى المذمومةِ في القرآنِ؛ لأنَّ الرَّهبانيَّةَ النَّصرانيَّةَ تَتضمَّنُ إهمالَ الحقوقِ الواجبةِ للنَّفْسِ والأهلِ والعبادِ، بخلافِ هذه العُزلةِ؛ لأنَّ المقصودَ منها تَرْكُ الاختلاطِ مع النَّاسِ عندَ وُقوعِ الفِتنةِ والشَّرِّ، مع أداءِ حُقوقِ النَّفْسِ والأهلِ والنَّاسِ.
وفي الحديثِ: فَضِيلَةُ القتلِ أو الموتِ في سَبِيلِ الله.
وفيه: فَضيلةُ اعتِزالِ النَّاسِ عندَ وُقوعِ الفِتنَةِ.
وفيه: أهمِّيَّةُ الصَّلاةِ والزَّكاةِ، وعدمُ تَركِهما.
وفيه: أنَّه لا عَيْشَ ألَذَّ ولا أشْهى ولا أهْنَأَ ممَّا يَجِدُ العبدُ مِن طاعةِ ربِّه، ويَسْتروِحُ إليها حتَّى يُرفَعُ تَكاليفُها ومَشاقُّها عنه، بلْ إذا فَقَدَها كان أصعَبَ عليه ممَّا إذا فَقَدَ أهْلَه