باب القراءة فى صلاة الكسوف
حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد أخبرنى أبى حدثنا الأوزاعى أخبرنى الزهرى أخبرنى عروة بن الزبير عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ قراءة طويلة فجهر بها يعنى فى صلاة الكسوف.
الشَّمسُ والقَمَرُ آيتانِ مِن آياتِ الله العظيمةِ، وجَرَيانُهما وتَعاقُبُهما يدُلُّ على إحكامِ صَنعةِ الخالقِ جلَّ وعلا، ولَمَّا كان يَحدُثُ لهما الخُسوفُ والكُسوفُ، فإنَّ هذا يَستدعِي الخوفَ مِن انطِماسِهما ووُقوعِ القِيامَةِ، وهذا لا بُدَّ معه مِن الرُّجوعِ إلى اللهِ، واللُّجوءِ إليه بالصَّلاةِ والدُّعاءِ، وقدْ كان هذا دَأْبَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعادَتَه
وفي هذا الحديثِ تُخبِرُ أمُّ المؤمنينَ عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ الشَّمسَ خَسَفَت في عَهْدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وخُسوفُ الشَّمسِ: ذَهابُ ضَوئِها، وأكثَرُ ما يُعبَّرُ عن الشَّمسِ بالكُسوفِ، وعن القمَرِ بالخُسوفِ، وقد يُعبَّرُ بأحدِهما عن الآخَرِ، وهذا ما وَقَعَ في هذه الرِّوايةِ. فصلَّى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالنَّاسِ صَلاةَ الكسوفِ رَكعتينِ، فقام في الرَّكعةِ الأُولى فأطال القيامَ؛ حيث قرَأَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعْدَ الفاتحةِ نَحوًا مِن سُورةِ البقَرةِ، كما في رِوايةِ ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما في الصَّحيحَينِ، وفي روايةٍ أُخرى في الصَّحيحَينِ عن عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَهَرَ بالقراءةِ في صَلاةِ الخُسوفِ، ثمَّ ركَعَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأطال الرُّكوعَ، ثمَّ قام مُعتدِلًا فأطال القيامَ، وهو دونَ القيامِ الأوَّلِ، أي: أطال القِيامَ بعْدَ رَفْعِه مِن الرُّكوعِ، لكنَّه كان قِيامًا أقصَرَ مِن القيامِ الأوَّلِ الذي قرَأَ فيه قَريبًا مِن سُورةِ البقرةِ، ثمَّ ركَعَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رُكوعًا ثانيًا في نفْسِ الرَّكعةِ، فأطال الرُّكوعَ، لكنَّه كان أقصَرَ مِن الرُّكوعِ الأوَّلِ، ثمَّ سجَدَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَجْدتينِ، فأطال السُّجودَ، ثمَّ فعَلَ في الرَّكعةِ الثَّانيةِ مِثلَ ما فعَلَ في الأُولى، ثمَّ فرَغَ مِن صَلاتِه وقدِ انكشَفَتِ الشَّمسُ وزالَ خُسوفُها، ثمَّ قام النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَقِبَ ذلك، فخطَبَ النَّاسَ، فحَمِدَ اللهَ وأَثنى عليه، ثمَّ قال: «إنَّ الشَّمسَ والقَمرَ آيتانِ مِن آياتِ اللهِ، لا يَنخَسِفانِ لموتِ أحدٍ ولا لحياتِه»، وفي هذا ردٌّ لِمَا كان قد تَوَهَّمَهُ بَعضُ النَّاسِ مِن أنَّ كُسوفَ الشَّمسِ كان لأجْلِ مَوتِ إبراهيمَ بنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فبَيَّنَ لهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الكُسوفَ لا يكونُ سَببُه مَوتَ أحدٍ مِن أهلِ الأرضِ، فإذا رَأَيتُم ذلك الكسوفَ فادْعُوا اللهَ، وكبِّروا وصَلُّوا وتصَدَّقُوا، فأمَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بدُعاءِ اللهِ سُبحانَه وتعالَى وتَكبيرِه، والصَّلاةِ والصَّدقةِ عندَ رُؤيةِ الكُسوفِ
ثمَّ قال: «يا أُمَّةَ محمَّدٍ»، وهذا القولُ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دَليلٌ على إشفاقِه عليه، كما يُخاطِبُ الوالدُ ولَدَه، ثمَّ أقسَمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ باللهِ أنَّه ما مِن أحدٍ أغْيَرُ مِن اللهِ أنْ يَزنيَ عبْدُه أو تَزنِيَ أَمَتُه، والمعنى: أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يَغارُ أنْ تُنتهَكَ مَحارِمُه، وتُؤتَى مَعاصيهِ؛ ولذا فظُهورُ هذه الفاحشةِ مُؤْذِنٌ بخَطرٍ عَظيمٍ؛ فكَثرةُ الزِّنا وانتشارُ الفاحشةِ مُؤذِنٌ بتَعجيلِ العُقوبةِ، وغَيرةُ اللهِ تعالَى مِن جِنسِ صِفاتِه التي يَختَصُّ بها، فهي لَيست مُماثِلةً لغَيرةِ المخلوقِ، بلْ هي صِفةٌ تَليقُ بعَظَمتِه، مِثلُ الغضَبِ والرِّضا ونحْوِ ذلك مِن خَصائصِه التي لا يُشارِكُه الخلْقُ فيها
وكرَّرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ النِّداءَ مرَّةً ثانيةً قائلًا: «يا أُمَّةَ محمَّدٍ، واللهِ لو تَعلَمونَ ما أعلَمُ، لَضَحِكتُم قليلًا، ولَبكَيتُم كثيرًا»، والمرادُ بالعِلمِ هنا ما يَتعلَّقُ بعَظَمةِ الله وانتقامِه ممَّن يَعصِيه، والأهوالِ التي تَقَعُ عندَ النَّزْعِ والموتِ، وفي القبْرِ، ويومَ القِيامةِ، ومُناسبةُ كَثرةِ البُكاءِ وقِلَّةِ الضَّحِكِ في هذا المقامِ واضحةٌ، والمرادُ به التَّخويفُ.
وفي هذا الحَديثِ: المُبادَرةُ بالصَّلاةِ والذِّكرِ والتَّكبيرِ والصَّدقةِ عندَ وُقوعِ الكُسوفِ والخُسوفِ، والأمرُ بالدُّعاءِ والتَّضرُّعِ في سُؤالِ اللهِ تعالَى
وفيه: بيانُ صِفةِ صَلاةِ الكُسوفِ، وبَيانُ اختلافِها عن بَقيَّةِ الصَّلواتِ
وفيه: الرَّدُّ على مَن زعَمَ أنَّ للكواكبِ تَأثيرًا في حَوادثِ الأرضِ
وفيه: التَّحريضُ على فِعلِ الخَيراتِ، ولا سيَّما الصَّدقةِ التي نفْعُها مُتعَدٍّ
وفيه: التَّحذيرُ والتَّخويفُ مِن فاحِشةِ الزِّنا