باب: القرعة في الولد إذا تنازعوا فيه وذكر الاختلاف على الشعبي فيه في حديث زيد بن أرقم 1
سنن النسائي
أخبرنا أبو عاصم خشيش بن أصرم، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا الثوري، عن صالح الهمداني، عن الشعبي، عن عبد خير، عن زيد بن أرقم، قال: " أتي علي رضي الله عنه بثلاثة وهو باليمن وقعوا على امرأة في طهر واحد، فسأل اثنين: أتقران لهذا بالولد؟ قالا: لا، ثم سأل اثنين: أتقران لهذا بالولد؟ قالا: لا، فأقرع بينهم فألحق الولد بالذي صارت عليه القرعة، وجعل عليه ثلثي الدية، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم «فضحك حتى بدت نواجذه»
تُستعمَلُ القُرعةُ في القِسمةِ وفَضِّ المنازعاتِ، والمُشكِلاتِ، وفي الحُكمِ بينَ المُستوِينَ في الحُجَّةِ؛ للعَدلِ بينهم ولتَطمئِنَّ قلوبُهم، وترتفعُ الظِّنَّةُ عمَّن يَقسِم أو يَحكُم بينهم، وغير ذلِك، وقد عَمِلَ بها النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأقَرَّ الصَّحابةَ على بعضِ أحكامِهم بها، ومِن ذلك ما أخبَر به زيدُ بنُ أرقمَ رضِيَ اللهُ عنه
في هذا الحديثِ، حيثُ قال: كنتُ جالسًا عند النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فجاء رجلٌ مِن اليمنِ، فقال: إنَّ ثلاثَةَ نفَرٍ مِن أهلِ اليمنِ أتَوْا عليًّا، أي: ابنَ أبِي طَالبٍ، يَختصِمُون إليه في ولدٍ، أي: يُحَكِّمُونه بينهم في ولدٍ أيُّهم أبُوه، أي: لِمَن هُو فِيهم، وقد وقعُوا على امرأةٍ في طُهْرٍ واحدٍ، ويُمكِنُ أنْ يُتصوَّرَ هذا في مِثلِ أنْ تكونَ هذِه المرأةُ مملوكةً لثلاثتِهم، أو أنَّ كلَّ واحدٍ باعَها للآخَرِ في فتْرةِ طُهْرٍ واحدةٍ، واشتركُوا في وَطْئِها في هذا الطُّهْرِ، فوَطِئَها الأولُ وهي في مِلْكِه ثُمَّ باعَها للثَّاني فجَامَعها، ثم باعَها للثَّالثِ فجامَعَها في الطُّهْرِ نَفْسِه، وجاء من هذا الوَطْءِ ولَدٌ، وكلُّ واحدٍ منهم يَدَّعِيهِ، وقد طلَب عليٌّ مِن كلِّ واحدٍ أن يَتنازَل عن حقِّه فيه إلى الآخَرِ، فقال: لاثنيْنِ منهما طِيبَا بالولدِ لهذا، فغَليَا، أي: اترُكاه عن طِيبِ نفْسٍ، وانشراحِ صدْرٍ، فرَفَضا وارتفعتْ أصواتُهما بالامتناعِ والإِباءِ، ثم قال: لاثنيْن طِيبَا بالولدِ لهذا، فغَليَا، ثم قال: لاثنين طِيبَا بالولدِ لهذا، فغَليَا، أي: رفضُوا جميعًا، وتمسَّكَ كلُّ واحدٍ بحقِّه في الولدِ، فقال: أنتم شُرَكاء مُتَشَاكِسُون، أي: مُختَلِفُون متنازِعُون؛ إنِّي مُقْرِعٌ بينكم، أي: سأُجْرِي بينكم القُرْعَةَ؛ فمَن قُرِعَ فله الولدُ، أي: مَن خرَج له، وعليه لصاحِبَيْهِ ثُلُثَا الدِّيَةِ، أي: ثُلُثَا قِيمةِ الدِّيةِ، على اختِلافٍ في المقصودِ بالدِّيةِ؛ فقيل: هي دِيةُ الولدِ؛ لأنَّ الولدَ لم يَثبُتْ نَسَبُه مِن واحدٍ، والقُرعةُ في ذاتِها ليستْ دَليلًا على صِحَّةِ النَّسبِ، وإنما هي لقَطعِ النِّزاعِ في خُصومةٍ لا يَملِكُ أحدُ الخَصمين فيها دليلًا، وعلى مَن استفادَ بالقرعة لُحوقَ الولدِ به أن يُعوِّضَ الآخَرينِ ما خسِرَا، وأقربُ تعويضٍ أن يُقدَّرَ بالدِّيةِ الكاملةِ، فعليه ثُلُثاها لصاحبَيهِ، فأقرَع عليٌّ بينهم، فجَعَله لِمَن قُرِعَ، أي: خرَجَتْ القُرْعَةُ لواحدٍ منهم، فأعطاه الولدَ، وأغْرَم مَن خرجتْ له القرعةُ بالولدِ ثُلُثَي قِيمتِه لصاحبَيه. وقيل: هي قِيمةُ دِيةِ أمِّه؛ وذلك لأنَّ الأمَّ كانتْ مملوكةً لهم جميعًا؛ فمَن أخَذَ الولدَ أخَذَ أُمَّه وغَرِم ثُلُثَي قِيمتِها، أو لأنَّ الولدَ لَمَّا لَحِقَ به صارتْ أمَّ وَلدٍ، وله فيها ثُلُثُها، فغرَّمه قِيمةَ ثُلُثَيها اللَّذين أفْسدَهما على الشَّريكينِ بالاستيلادِ
فبلَغ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم حُكمُ عليٍّ بالقُرعَةِ، فضَحِكَ حتىَّ بدَتْ أضْرَاسُه أو نَواجِذُه، أي: أقرَّ عليًّا في حُكمِه بينهم بالقُرعَةِ؛ لأنَّ ضَحِكَه لا يكونُ على باطِلٍ، و"النُّواجِذُ" هي أقْصَى الأسنانِ، وقد بانتْ مِن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لشِدَّةِ فَرَحِه، أو إعجابًا منه بحُكْمِ عليٍّ، وهي زيادةٌ في الإقْرارِ له
وفي الحديثِ: أنَّ العمَلَ بالقُرْعَةِ إنَّما يكونُ عندَ انعدامِ الطُرُقِ الشَّرْعِيَّةِ
وفيه: بيانٌ لِما كانَ عليه علِيٌّ مِن الفَهْمِ لدَقِائِق الشَّرْعٍ
وفيه: إلحاقُ الوَلدِ بالقُرْعَةِ، إذا كانتْ هي غايةَ المقدورِ عَليهِ، وعندَ فُقدانِ مُرجِّح غيرِها كالبيِّنة، أو الإقرارِ، أو القَافةِ